علم الحديث النبوي.. نظرة في إشكاليات التأصيل والتأثيث

جلال عبد الحسن النجفي

إلى أي مدى استطاعت العلوم المنبثقة من إشكاليات الإحاطة بالحديث النبوي الشريف أن تشكل الدعامة الرئيسة للعلوم الأخرى المجاورة كعلوم القرآن والعلوم الإسلامية العربية المتعلقة به، إلى درجة يمكن القول معها أن لا علم من هذه العلوم يمكنه الإفلات من دائرة علم الحديث النبوي والاصطباغ بصبغتها الروائية والإسنادية، وهو ما نحاول تسليط الضوء عليه في هذه المقالة الموجزة.

ويمكن تعريف الحديث الشريف على أنّه : (كُلّ ما ورَدَ عن النبيّ مُحمّد عليهِ الصلاةُ والسلام من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير، أو صفةٍ خلقيّة أو خُلُقيّة) أمّا عِلمُ الحديث فهوَ: (العُلم الذي يُعنى بمعرفة حديث رسولِ الله صلّى الله عليهِ وسلّم، ويقوم بحفظه وتدوينه وضبط مصادر الحديث من حيث دراسة السند، وهوَ سلسلة الرواة الذين نقلوا إلينا حديثَ رسولِ الله عليهِ الصلاةُ والسلام، ودراسة المتن الذي هوَ نصّ الحديث النبويّ).

وتتفرّع من عِلم الحديث عُلومٌ كثيرة تنصبّ كُلّها في فهمِ الحديث وحفظه ومعرفة درجته؛ فهُناك عِلمٌ يختصّ بدراسة درجات الحديث ومُصطلح الحديث وعِلم الطبقات أو ما يُعرف بعلم تراجم الرجال الذي ينبني عليه عِلم الجرح والتعديل.

وقد أثارت مسألة تدوين الحديث النبوي الكثير من الدارسين والباحثين فمنهم من ذهب الى تدوين الأحاديث النبوية في عصر النبوة، ومنهم من ذهب الى عدم حصول هذا التدوين في عصر الرسول الأكرم بحجة نهي الرسول الأكرم نفسه عن تدوين أي قول خلا القرآن الكريم، هذا اذا ما سلمنا بمعرفة العرب للكتابة قبل ظهور الاسلام وشيوع ظاهرة التدوين مع نزول القرآن على الرسول الأكرم قبل بداية القرن الهجري الأول بأعوام قليلة، وإذا كان القرآن الكريم قد دوّن على عهد الرسول دون زيادة ولا نقصان (انّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون) وبمراجعة الرسول الأكرم نفسه، فإن المشهور عن الحديث النبوي تدوينه بعد عهد الرسول وبعد رحيله إلى بارئه بزمن يكفي لكي يكون هذا الحديث عرضة للتلاعب والتغيير الذي يجري لدوافع عديدة، سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية عقائدية وغيرها من الاسباب الأخرى، بالرغم من أن من يذهب من مؤرخي المسلمين ومحدثيهم الى أن الكثير من الحديث النبوي دون على عهد الرسول الأكرم.

ومع هذا فقد تفردت الحضارة الاسلامية بخاصية الاهتمام بأحاديث نبيها الأكرم وإيلائه أشد العناية إلى درجة لم تعرف معها الأديان والحضارات الاخرى مثل هذه الظاهرة، فالحديث النبوي له ثمان درجات أو مستويات يعرفها أهل العلم بالحديث وهي: (السماع والقراءة والإجازة والمناولة والمكاتبة، وإعطاء الشيخ كتابا، والوصية والوجادة وتعني استخدام احد الكتب او الاحاديث بغض النظر عن قدمه ويبدأ عادة بكلمة وجدت..).

أما العلوم التي تنضوي تحت دائرة علم الحديث النبوي فتشمل علوم فرعية أخرى منها: (علم الجرح والتعديل ويبحث عن الرواة من حيث ما ورد في شأنهم من صلاح أو فساد،  وعلم رجال الحديث ويقوم على معرفة رواة الحديث من حيث انهم رواة الحديث، وعلم مختلف الحديث ويبحث عن الأحاديث التي ظاهرها التناقض من حيث امكان الجمع بينها وعلم علل الحديث ويبحث في الاسباب الغامضة القادحة في صحة الحديث، وعلم غريب الحديث ويبين ما خفي على الناس من معرفتها من حديث الرسول، وعلم ناسخه ومنسوخه ويدور حول الأحاديث المتعارضة التي لا يمكن التوفيق بينها من حيث الحكم على بعضها بأنه ناسخ وعلى البعض الاخر بأنه منسوخ).

ولا يظن القارئ الكريم أن عملية تحصيل الحديث النبوي والعلم بشؤونه من السهولة بمكان، فما يروى بكتب طبقات المحدثين من الرحلات الشاقة التي قام بها طلبة العلم بالحديث للحصول على حق رواية الحديث سماعا أو قراءة وعلى عملية غربلة الأحاديث وتصنيفها هي من الصعوبة التي تجعل هذا العلم من أعقد العلوم الاسلامية واصعبها على الاطلاق. ولذلك وضع العلماء مجموعة من الشروط لقبول رواية الراوي للحديث النبوي، ولو فقد الراوي كلها أو بعضها لردت روايته وترك حديثه، وقوام هذه الشروط أمران هما: العدالة والضبط، ويشترط في العدالة (الاسلام والبلوغ والعقل والتقوى)، ولذلك فيعد مفهوم (صحة الحديث) على وفق ما مر مفهوم معقد، فالحديث الصحيح هو (الحديث المسند الذي يتصل اسناده بنقل العدل الضابط الى منتهاه ولا يكون شاذا ولا معللا) ومعنى ذلك أن يكون الحديث منقولا بوساطة سلسلة مضمونة من الاسانيد او من قبل الشاهدين على حقيقة الوحي من الصحابة، ولذلك اختلفت المعايير التي تصحح على وفقها الأحاديث النبوية بين علماء الحديث النبوي، فالصحبة لرسول الله ورؤيته تتعارض أحيانا مع شرط العدالة وليس من الضرورة أن يكون كل من رأى الرسول أو صحبه شاهد عدل، ويكفي شاهدا على ذلك أبو هريرة المحدث المشهور الذي أقصاه الرسول الأكرم إلى البحرين لنبو أخلاقه وإكثاره من السخرية، وهو ما جعل الدارسين يقول عن هذا الأمر (لو علم النبي (ص) أن في أبي هريرة خيراً أو فضلاً وأنه أهل لصحبته لأبقاه بجواره!!).

ولذلك ينبغي عدم الاطمئنان إلى الجهد العلمي التأصيلي والتأسيسي الذي بذله رجالات الحديث في العصور الغابرة، وإن كان هذا الجهد العلمي واضح لعيان الدارسين والباحثين، فكثير من هذه الجهود وقفت خلفها العوامل السياسية ودراهم السلطة لإشاعة ثقافة قد لا تمثل الرسول الأكرم الذي بعثه رسول الله رحمة للعالمين، وهو ما سنأتي على ايضاحه في مقال قادم بإذن الله.