ابن تيمية.. أفكار السيف والدم

جلال عبد الحسن النجفي

- إن أغلب الحركات الجهادية اليوم تعيد الروح إلى ما قاله ابن تيمية قبل قرون، وتمارس طقوسها السياسية بتشنّج واضح وابتعاد بيِّن عن الناس والمجتمعات التي تعيش ضمنها.

سؤال مهم يتبادر إلى أذهان المتابعين للشأن السياسي في منطقة الشرق الأوسط، ومفاد هذا السؤال، لماذا ترفع المنظمات التكفيرية، والمؤسسات السلفية الجهادية المتخذة من القوة شعارا لفرض الإرادة، لماذا تتخذ هذه المنظمات والمؤسسات من ابن تيمية مرجعية خالدة لا تحيد عن أفكاره وتتقيد بفتواه وتجعل منه مدخلا لفهم العالم والكون رغم مرور قرون طويلة على موته، أي ما سرّ إحياء هذه الأفكار التي ولدت في ظرف زماني وواقع تاريخي مغاير لظرفنا ولحظتنا التاريخية التي نحياها؟؟

ولد ابن تيمية سنة 661 هجري بمدينة حرّان ، ورحلت  أسرته (المجهولة النسب) وهو طفل صغير إلى دمشق، وتلقى علومه على يدي أساتذتها وعرف منذ نعومة اظفاره بالتعصب لآرائه واعتقاداته ذات الأصول الحنبلية، وكانت فترة حياته فترة اضطراب سياسي بعد دخول التتر وغزوهم للبلاد الاسلامية، وعاش ابن تيمية فترة حكم المماليك المضطربة لبلاد الشام، ومع هذا كان كثير التأليف، حيث ترك مصنفات عديدة في المعارف والعلوم الإسلامية بعضها مطبوع والآخر مازال مخطوطا.

منذ وفاته سنة 748هجري كان ابن تيمية موضع اختلاف وتأويل متناقض بين مختلف الطوائف والفئات الإسلامية سواء من داخل مذهبه الحنبلي أو من خارجه إذ خصصت الكثير من البحوث والدراسات في عصرنا الراهن، وفي العصور الغابرة للدخول إلى فكره المتعصب وللوقوف على دوافع ذلك التشدد الغريب الذي يلف أفكاره ورؤاه، دون أن تقول هذه الكتب كلمتها النهائية في هذا الرجل غريب الاطوار، والذي أصبح - فيما بعد - ملهما لكل المفكرين الذين لا يعرفون الوسطية والاعتدال، ولكل المؤسسات والتجمعات والدول التي لا تؤمن الا بالعنف وسيلة للوصول الى المآرب والغايات.

ولابن تيمية نظرية سياسية يلمحها من يقرأ مصنفاته وكتبه متوزعة على مجموع هذه الكتب ولهذه النظرية مجموعة من القواعد أهمها: إبطاله لنظرية الإمامة بمفهومها (الشيعي) وقوله بضرورة تنصيب الخلافة بعد النبوة ، وبضرورة تنصيب الخليفة بعد الخلافة الراشدة حتى لو تحول هذا التنصيب إلى ملك عضوض متذرعا بقوله ( فإذا كان الملك شاب النبوة فمن باب أولى أن يشوب الخلافة !!!!) وهو يخالف بذلك مبدأ الوصية الذي أقره القرآن وأكد عليه الرسول الأكرم في استخلافه الامام عليا (عليه السلام) في أكثر من حديث صحيح عند عموم المسلمين .

ومن مبادئ نظريته قوله بانتفاء الحاجة الى امام معصوم، وتأكيده على عصمة الامة التى رأى أنها في زمنه تعيش جاهلية حقيقيّة قبل عصمة الإمام الذي يتولى تدبير شؤونها الدينية والدنيوية، ولذا نجده يقول في كتابه منهاج السنّة: ( ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا و هي تأمر بالحكم بالعدل ، و قد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ... فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله منهم كفار)، ولذلك  يشيع في خطابه الفقهي، وخاصة في فتاويه الكثيرة عبارة كثيرا ما تتردد بخصوص من يخالفه الرآي والعقيدة من المسلمين، وهي عبارة (يُسْتَتاب، فإن تاب؛ وإلا قُتِل)  فيكرر هذه الجملة في تقرير مصير مخالفيه الذي لا يتفقون معه فيما يعده من باب الضروريات، أي ما يخص  المعلوم من الدين بالضرورة، كذلك، معنى فتواه أن من يخالفه الرأي من المسلمين ينصح ويذكَّر فإن عاد إلى رأي ابن تيمية رُضي عنه وقبلت توبته!!! وإلا فهو كافر معاند، يجب قتله لكونه أصبح من جملة الضالين المرتدين عن الدين.

إن اغلب الحركات الاسلامية الجهادية في العصر الحديث، كالأخوان المسلمين في مصر، والجماعة الاسلامية في الهند، وحزب التحرير في الأردن، وتنظيم القاعدة وطالبان في أفغانستان، وبوكو حرام في أفريقيا وأخيرا (تنظيم الدولة  الإسلامية في الشام والعراق (داعش) وغيرها) قد اتخذت من افكار ابن تيمية بوصلة توجه هذه الحركات، ومما قالت به هذه الحركات (الحاكمية) التي جذر لها ابن تيمية وأبسط فيها القول العملي، وتعني الحاكمية في جنبتها اللغوية الحكم، فكان يقال حكمته أي منعته بالحكمة، وتعني أصوليا التحليل والتحريم على خلفية الشريعة الإسلامية المبنية على القرآن المجيد وسنة الرسول الأكرم، وتعني سياسيا تدبير شؤون الناس طبقا لتعاليم القرآن والسنة النبوية لغرض تحصينهم من الفساد، علما أن هذه اللفظة (الحاكمية) لم ترد في كتاب ولا في سنة، وإن أول من استعمل هذا المفهوم هم المنهزمين في معركة صفين الشهيرة بين جيش معاوية وجيش الأمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث اقترح عمرو بن العاص الماكرمبدأ  الاحتكام لكتاب الله (القرآن الكريم)، وحينما رفعت صحف القرآن طلبا للاحتكام كان ردّ الإمام علي: (عليه السلام) الذي لم يفته مكر القوم والتفافهم لإيقاف الهزيمة المرّة التي بانتظارهم : (هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق، ولكن يتكلم به الرجال )، والقصد أن القرآن فيه إمكانيات واسعة للتأويل والفهم، وإن استغلال أي نص من نصوصه لقضية سياسية ستتبعها كوارث، وهو ما وقع فيه الخوارج لاحقا حينما رفعوا شعار (إن الحكم إلا لله) بالاعتماد على القرآن، وقال فيهم الإمام علي (عليه السلام) قولته المشهورة كلمة حق يراد بها باطل!!!

إن أغلب الحركات الجهادية اليوم تعيد الروح إلى ما قاله ابن تيمية قبل قرون، وتمارس طقوسها السياسية بتشنج واضح وابتعاد بيِّن عن الناس والمجتمعات التي تعيش ضمنها، فهي ترفض الجمع بين الإسلام والديمقراطية وترى ذلك كالجمع بين الإسلام واليهودية، كما تقول بجاهلية المجتمعات المعاصرة وبضرورة إعادتها إلى حضيرة الإسلام ولو بإكراه السيف، وإن لم يجدي السيف نفعا فبالدم والقتل والرعب، وهذا مخالف لنصوص الشريعة السمحاء ولكتابها الذي يأمر بالإحسان والعيش السلمي الرغيد.

وتبالغ هذه الحركات التي تمثل امتدادا لفكر ابن تيمية والتي لا يجمع بينها شيء كما يجمع بينها مبدأ كراهية الموالين لآل بيت الرسول الأكرم، فترى أن ديار المسلمين تحولت إلى ديار كفر وطاغوت فحرمت ولاء المسلمين للدولة التي يعيشون تحت كنفها، وكان مصطلح (التكفير) هو المحور الرئيس في خطابها الإعلامي والسياسي متناسين الخطاب القرآني الكبير والأحاديث الصحيحة الدافعة للتحابب وللمودة وللوئام ولبناء الحياة السليمة المتمدنة والمتماشية مع العصر.

ولذلك تشيع في أدبيات هذه الجماعات التكفيرية مصطلحات العنف والمواجهة والإرعاب، يقول أحد دعاة هذه الجماعات، وهو أبو محمد المقدسي: ( لهذا كان حتما أن تخرج السيوف من أغمادها، ويشتعل البارود، ويطلق الرصاص، ويقوم المجاهدون لدفع الظلم والجبروت، ورد العنف بالعنف، والقوة بالقوة، ويظهر الفرقان لكل ذي عينين، فإما الجهاد والمواجهة والقتال، وإما الأسر والذل والهوان، فهذا وربك هو الحق الذي ضل عنه كثير، وتنكر له الكثير، وجبن أمامه الكثير... إلخ)  وعليك أيها القارئ أن تتخيل حجم الضلال الذي فيه هؤلاء وقدوتهم التي احتذوها، وأمثالهم من المغررين الجهلة عن شمس الإسلام وأنواره الساطعة.