الشاعر والكلمة غير المدنّسة.. الإنزياحات الرمزيّة في ديوان الزهيري

صباح محسن كاظم

تمهيد

الكلمة هي الموقف، وانعكاس لصفاء الروّح وعلوّ الهمة للإرتقاء بالجمال، فصناعة الدهشة  بالإحساس الصادق عبر رؤيا الحلم الإنساني بالتعبير عن خلجات الذات صوب البحث عن الكمال والإنتشاء ببلاغة الكلمة المقدسة..  الذي يندلق على بياض الصفحات لغاية السمو الروحي ّ والتربويّ والأخلاقي ّ أراه هو المُبتغى والمُرتجى من هطول الكلمات التي تتوق لها الأرواح الظامئة للعفة، والطهر، والنقاء. فشتان بين الإلتزام بالمحافظة على الكلمة الصادقة الأصيلة المقدسة غير المدنسة بالرياء والتزلف للحكام التي دأب عليها كثير من الشعراء بكل عصر ومصر، وبين الكلمة الحقيقية التي تصعد للذرى ترفع منشدها عالياً  فالعارف البصير بجدوى صدق ما يعبر عنه يمضي للخلود. القصيدة  البراقة الموشاة بلآليء الصور المدهشة عن عظمة النبي وأهل البيت  سر جمالية النصوص التي يكتبها الشيخ الشاعر ستار الزهيري بديوانه، أو بمعظم القصائد الوطنية، والمناسباتية.

الثيمة الشعرية

الركام الهائل من الشعر العربي طوال القرون عن مناقب آل البيت لم يترك للمعاصرين الإضافات المختلفة من دعبل الخزاعي والكميت والحلي إلى الحبوبي والجواهري.. لكن نصوص "الزهيري" مُحملة برؤية تجديدية تبتكر أسلوب الحجاج اللغوي بالإستدلال والإثبات تقوم على تكريس العشق الهادر بصورة حداثية، وإنزياحات رمزية، وإختزال المواقف التاريخية لإيضاح الملتبس منها، مع إدغامها بواقعنا المعاصر بتزويج الأزمنة وتماهي الأحداث فتتناغم الأرواح مع فضاء وآفاق الكلمة الشعرية التي تصل بالمتلقي إلى كوثر الحقيقة في ظل ضبابية العولمة المعاصرة بوجودنا المُلتبس، المُشكك، الفوضوي، وتضارب الآراء، واختلافها بادعاء فارغ المحتوى أن تحرير العقل بالتكنلوجيا ومغادرة التراث الديني!؟ القنوط نحو الإنحلال وعدم إتباع الرمز أفرغت محتوى الروّح لدى الجيل.

نصوص الزهيري  الروحيّة  العميقة تعبر عن الانتماء والهوية للمقدس  لا المدنس المغمس بالمتعة المؤقتة الزائلة بزوال العطايا، أو من يداعب الحواس للإثارة!! .لغته البراقة تميزت برصانة الكلمة وحُسن الإختيار مع جرس صوتي له رنينه بالقوافي المموسقة بالجمال، ينهل ُ صوّره الشعرية من البيئة العراقية رغم مضي أعوام على مهجره، تتدفق عاطفة الروّح بالولاء المقدس.. حينما يمسك بمقود الكلمة الصادحة بالحق وهو يمتطي حصان الحكمة العالية ليلوًح بها بالآفاق معلناً إن البياض الناصع هو الطارد والفاتح لكل عتمة العقول المنحرفة عن الحقائق بعظمة محمد وعلي وذريتهم، تلك هي الثيمة المتوقدة بجمر القصائد بديوانه البهي.

المعاني والدلالات

قصائد الشيخ الزهيري مُشبعة بالمُثل العليا التي ينسجها بنسق شعري تنثال بالرؤيا اليقينية المُرتبطة بالإيمان العميق ليس الشكلي الطقوسي وإنما تنزاح للقيّم الساميّة التي حمل رسالتها أئمة أهل البيت أئمة الهدى والتقى فكانت المعاني ودلالاتها لها الصدى لتلك النصوص لا يمحوها غبار الزمن بخلود دلالاتها وإنزياحاتها ورمزيتها.. قصائد حيّة لن تذوي بعكس شعراء التكسب للطغاة حينما كان يمدحون المجرم ليشوهوا الكلمة ويدنسوها ومن ثم يلتهموا الرغيف السحت من عطايا المجرم رغم علمهم بقرارة أنفسهم إنهم تخلوا عن المقدس بالسير نحو بؤس الموقف والعار الذي سيلاحقهم للأبد.

أرى توالد الصوّر الشعريّة بين نص وآخر حين الرثاء أو المديح لآل المصطفى، طهر وصفاء ونقاء الكلمة حينما تتجلى كهيفاء رشيقة جذابة تسر الناظر والقلب بالطبع لدراسته اللغوية والنحوية والفقهية والفكرية والفلسفية جعلت من معالجاته للمدائح والمراثي العلوية والحسينية وكل القصائد عن أئمة الهدى من الإمام الحسن المجتبى إلى أملنا الموعود المنتظر تحمل الدلالات الولائية بعرفانية وصوفية مع محمولات التاريخ الذي أبعد من يستحق صدارتها وما تعرضت له سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء -عليها السلام- من إحراق الدار أو تجاوز تنصيب الإمامة بالغدير.. نصوص الديوان كانت وصف بفخر بأحزان وأفراح آل محمد تحلق بقداسة نحو رحاب لانهائية بلغة تسمو بجلال الوصف للمعصومين، كما بنصوصه التي تحمل مضامين تربوية إجتماعية تحتشد بالعطفة الإنسانية..

جمالية الإنثيال الشعري

تميز ديوان الشاعر الفذ "ستار الزهيري" ببلاغة جمالية الكلمة التي كرسها عن مخاضات ، وصراعات لتثبيت الحق لنصابه، كما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.. من خلال الحبكة الشعرية وبنسق تنثال منه الحكمة دون ثغرات أو تكرار فلكل نص تصاعد المستوى الشعري برمزيته، ووضوح الرؤيا، فتهجد بمحراب الكلمة المقدسة لتشكل تلك النصوص الشعرية كجسد واحد بقلب واحد ولسان واحد لا يعمد التزييف والأقنعة والكولاج الكاذب. القدرة اللغوية تجلت واضحة بسلاسة الألفاظ، وجزالتها، وعمق الرؤى الحالمة بالفضيلة، الكلمة هنا بالديوان هي الدفاع والتصدي لكي لا يتمادى الباطل ويمتد عبر التاريخ والأزمنة قصائد تنحو لنشر الحقيقة التي مهما غيبها الحكام ومن مادحيهم الشعراء الضالين المضلين، لذا أعد الديوان صرخة حق وصفعة لكل مبتذل، وعلى خد الظلم، وتعليم الجيل الإحتجاج على كل مدنس يستأثر بالسلطة ليخدع الجماهير يحمل الفانوس لينير الدرب لمن يبحث عن الحقيقة لذلك طوًع "الزهيري".

الصوّر المجازية، التشبيه، الإستعارة، والكناية من قصيدة الإمام الحسن - ثم الحسين والباقر والمنتظر - عليهم السلام - أرى الشلالات الهادرة بالجمال بلا هوادة وتوقف بتوليد المعاني العميقة لتجعل من المتلقي يأنس  بما يشدو به الشاعر وكأنه يرى لوحة تشكيلية بألوان قشيبة زاهية.. حتى بنصوص الرثاء والأسى برّع بوصف المأساة عِبر الإنزياحات الحركية والسياقية في مبتناه الشعري المفعم بالدهشة والجمال..

كلمة أخيرة

التماسك بنصه الشعري يعكس القدرة التوليدية للمعاني يتطابق بها الثراء الدلالي والقيّمة الخارجية والمضمونية المترابطة بانسجام عال مع الإيقاع الداخلي والقصدية من القاء الشعر عمق الولاء المقدس ليجعل المتلقي – مشدوداً بحبل الولاء – ويؤطر نسق العلاقة وفق الحداثة الشعرية ليؤكد أن الحقيقة التاريخية مهما صادرتها الأزمنة لابد من شروق شمسها ليصل لزوايا العتمة بالعقول المحجبة بالباطل التي ترتدي النظارات السوداء لتخلعها لتبصر النور.. لعمري تلك هي رسالة توصيلية لأهمية الشعر بمخاطبة الإنسان المعاصر وكشف زيف وأقنعة الباطل ليخاطب الإنسان المعاصر: هذا طريق الحق فاتبعوه.

*صباح محسن كاظم – مؤرخ وناقد صدر له 18 كتاباً وكتب أكثر من 65 مقدمةً لشعراء من الوطن العربي والعراق، وشارك بأكثر من 75 دراسة نقدية بمؤلفات عربية وعراقية.