الآخر من منظور إسلامي.. مفهوماً وتطبيقاً

د. هاشم الموسوي
الصورة: احمد القريشي

لم يكن الدين الاسلامي هو الدين السماوي الأول في جزيرة العرب ولم يكن الوحيد فقد عرفت المناطق التي قطنها العرب ديانات متعددة منها ما هو سماوي (إبراهيمي) ومنها ما هو وثني، وقد ظلت هذه المنطقة من أكثر مناطق العالم تجاذبا على الصعيد الديني، وذلك بسبب طبيعتها الجغرافية والبشرية فهي ارض مفتوحة من الشمال على الروم والفرس ومتصلة من الشرق والجنوب والغرب بحريا على الهنود والأحباش وسكان شمال أفريقيا وشرقها.

كما أن الطبيعة البشرية للعرب وهي نتاج للطبيعة الجغرافية ساهمت الى حد كبير في كثرة الأديان وتعددها والدليل على ذلك أننا نجد في بطون القبائل العربية من تكون ديانته على النصرانية في حين تكون البطون الأخرى من القبيلة ذاتها على ديانة أخرى، ولا أدل على ذلك من قبيلة تغلب التي تعددت دياناتها وتنوعت. وذلك ما يعني إن أرض العرب وعلى الرغم من اتهام أهلها بالبداوة والتخلف والانغلاق ظلت أرضا جاذبة للتنوع الديني، وإن مجتمعات هذه الأرض كانت مجتمعات تتقبل الآخر، فمكة العاصمة التجارية لقريش (القبيلة التي ينتمي لها الرسول الأكرم) والمدينة التي شهدت ظهور الاسلام وابتداء البعثة النبوية هي مدينة كانت تضم إلى جانب القرى المحيطة بها ديانات مختلفة كاليهود والنصارى فضلا عن الوثنيات المختلفة والديانات الإبراهيمية القليلة الحضور كالأحناف وغيرهم من الديانات الأخرى المنقرضة.

ولما بعث نبي العرب بالحق وأراد منه الله أن يجهر بدعوته كان لا بد لدينه الجديد من موقف حضاري إزاء الديانات والمعتقدات الأخرى، إذ كان هذا الموقف ثابتاً صارماً من الديانات الوثنية منذ اللحظة الأولى حيث الرفض المطلق لهذه المعتقدات مهما كان مصدرها ومهما كانت القيمة الاجتماعية لمعتنقيها وهو ما تبدى لنا من خلال العلاقة المتأزمة مع قريش عابدة الأوثان ومقدستها منذ بداية البعثة النبوية. لكن الموقف كان مختلفا مع أصحاب الديانات القديمة كاليهودية والمسيحية التي سنخصص لها هذا المبحث، وقبل الحديث عن ذلك لابد من الوقوف عند القواعد العامة لضوابط العلاقة بين المسلمين وغيرهم، ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:

1- أن الناس جميعاً خُلِقوا من نفسٍ واحدة لا فرق بين أجناسهم وطبقاتهم، قال الله في محكم كتابه (يأيها الناسُ إنا خلقناكم من ذَكرٍ و أُنثى وجعلناكم شُعوباً وقبائل لتعارفوا) فالأصل البشري هو أصل واحد، مهما تفرق الناس بعد ذلك إلى امم وقبائل وبلدان وأجناس وألوان، وقد أكد النبي محمد هذه المعاني، وأن الناس جميعاً لآدم، وآدم من تراب.

2- أن الناس سواسية أمام شرع الله، فلا فضل لغنيّ على فقير، إنما ميزان التفاضل بين الناس بتحقيق التقوى لله تعالى، قال الله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، فحين وقف النبي محمد في حجة الوداع أعلن في خطبته المعروفة هذا الميزان الرباني العادل فقال: (أيها الناس، ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى). 

3- إن مصدر الديانات الإلاهية من عند الله والأصل أنها تستقي من معين واحد مصداقاً لقول الله (شَرَعَ لَكُم مِنَ الدين ما وَصى بِهِ نوحاً والذي أوحينآ إليكَ وَمَا وصينا بِهِ إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تَفَرقوا فِيهِ) وأن دخول الجنة لا يتم إلا لمن اعتقد بعقيدة الإسلام بعد مبعث النبي محمد قال الله (وَمَن يبتغِ غًير الإسلام ديناً فَلَن يُقبل مِنهُ وهو في الأخرةِ من الخاسرين)، ويرى الإسلام أن كل من كان موحداً ومتبعاً لنبي من الأنبياء قبل مبعث النبي محمد فهو ناجٍ (إن الذين أمنوا و الذين هادوا و الصابئون و النصارى من ءامن بالله و اليوم الأخر و عَمِلَ صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) وأن الأنبياء جميعاً إخوة في الدين، وأن على المسلمين أن يؤمنوا بهم جميعاً، ويقرر الإسلام على ضوء هذه القاعدة أن كل إنسان مسؤول عن أعماله، وأن الذي يؤمن بالله ورسله فهو ناجي دون غيره، وان الإسلام هو الدين الذي ختم الله به الديانات.

4- إن الإسلام لا يُكرِه أحداً على الدخول فيه، فالعقيدة لا بد فيها من الإقناع والرضا، قال تعالى: (لا إكراه في الدين قَد تبين الرشد من الغَيّ) وان دور العبادة لجميع الأديان محترمة يجب حمايتها و المحافظة عليها.

5- إن الناس وان اختلفوا في أديانهم، ومعتقداتهم، لا يدفعهم ذلك إلى أن يقتل بعضهم بعضاً، أو أن يتعدى بعضهم على بعض، بل يجب ان يتعاونوا على فعل الخيرات، ومكافحة الشر والمنكرات، قال الله تعالى :( و تَعاونوا على البِرِ و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان) و أن هذا الاختلاف لا ينبغي أن يحول دون البر والصلة، ما دام كل طرف ملتزماً بحدوده ، قال الله تعالى ( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب

المقسطين) وعليه فإذا اعتُدي على الأمة الإسلامية في عقيدتها و دينها وجب ردُّ العدوان حماية للعقيدة ودرءاً للفتنة، و إذا انتصرت الأمة الإسلامية على من عاداها في الدين، او من أراد سلبها حريتها، فلا يجوز الانتقام منهم بإجبارهم على ترك دينهم ، و اضطهادهم في عقيدتهم ، و حَسْبُهم أنْ يتعرفوا بسلطان الأمة الإسلامية، وعندئذٍ لهم ما لنا وعليهم ما علينا وعلى الدولة الإسلامية المحافظة على حقوقهم فيها. وعلى ضوء تلك القواعد العامة فقد نظر الإسلام إلى الديانات الأخرى نظرة معتدلة عنوانها الرحمة ، وقانون العدل.

ينظر الإسلام إلى أهل الكتاب اليهود والمسيحيين نظرة خاصة، ويظهر اهتمام متزايد اتجاههم، فهم أتباع دين سماوي، يشتركون مع المسلمين في أصل الديانة والرسالة، ولا عجب حين نرى في القرآن، حديثاً متكرراً عن أنبيائهم ورسلهم، وتاريخ شعوبهم.

ويحرص الإسلام وضمن تاريخه الطويل في تعامله مع أهل الكتاب، أن يوفر لهم حرية الاعتقاد والدين، مهما كانت تصوراتهم وآرائهم، و إننا ندرك ذلك من طبيعة المعاهدات التي وفرها الإسلام لهم لإقامة العلاقة السلمية والسليمة بين المسلمين وأهل الكتاب، فقد شرع الله الإسلام من الأحكام ما يُقرب العلاقة بينه وبينهم، فأباح أكل طعامهم، والزواج منهم، وفي ذلك دعوة لتقوية الروابط، وتمتين لأواصر المودة ما يكفل دوامها وبقائها. ويشدد الإسلام على ضرورة مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، فيذكرهم بأصل معتقدهم، وما جاء به أنبيائهم ورسلهم، فإذا لم يوظف المسلم نفسه على مجادلتهم بالتي هي أحسن عليه أن يمتنع عن ذلك، ولا يريد الإسلام منهم إلا عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.

أما المعتقدات الأخرى، كالمجوسية، والمعتقدات القائمة على الشرك، والمعتقدات القائمة على الإلحاد، وغيرها من المعتقدات التي هي من صُنع الإنسان وتصوره فيقرر الإسلام إضافة إلى القواعد العامة في التعامل معهم المبادئ الآتية:

التأكيد على المبدأ العام في عدم وجود الإكراه، والتركيز على الحُجة والبيان في توضيح الحق، والدعوة إلى الله تعالى بالُحجة والموعظة الحسنة. وإزاء موقف الإسلام من معتقداتهم وَجَب على اهل هذه المعتقدات احترام قانون الإسلام وعدم القيام بما يتنافى مع تعاليم الإسلام وأحكامه، إذ لا يبيح الإسلام الزواج من نساء من ليس لهم دين أصله سماوي، ولا يُحل أكل طعامهم.

يلحقون في بعض الأحكام العملية باهل الكتاب، في المعاملة من حيث إعطائهم حقوق المواطنة و أخذ الجزية منهم، كما فعل عمر بن الخطاب حين أخذ الجزية من المجوس ملحقاً إياهم بأهل الكتاب.

ولم يكنِ الإسلام أبدًا - كغيره من الأديان السَّماوية - أن يدعو معتنقيه إلى بغضِ الناس لمجرد الاختلاف في الدين والمعتقد، ولم يكره أحدا في الدخول إليه، إلا أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان العقل يستطيع أن يميِّز به الحق من الباطل، وألهمه الخير والشّر، وبيَّن له طريق الجنة والنَّار، وقد ورد في القرآن قول الله عز وجل: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ومن هذه القاعدة يجب على الإنسان إذا ما خَفيَ عنه الحق، وإذا ما وجَدَ في نفسه فراغا روحانيا أن ينطلق في البحث عمَّا يسدُّ هذا الفراغ الروحاني.

فالإسلام ليس مذهبا فاشيًّا كما يُقالُ، أو ضيّق التفكير كما يُصوّر لنا بعض أعدائه، إنما هو دين وتشريعٌ كامل يواكب الحضارة وتطورها، وقبل كل هذا يهتمُّ بالإنسان بشكل غير عادي ويحفظ حقوقه كاملة دون استثناء، ولا يفرِّق أبدا بين الأسود والأبيض إذ كلهم إخوة يجمعهم التسامح والرفق، ونبينا محمد صلى الله عليه وآله لم يكن ليُعنِّف أحدا سواء كان مسلما أو غيره، وهذه قصته مع اليهودي (زيد بن سعنة) الذي أتى النبي الأكرم يتقاضاه فجبذ ثوبه عن منكبه الأيمن، ثم قال: إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل، وأني بكم لعارف، قال : فانتهره عمر، فقال له رسول الله : يا عمر أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج أن تأمر  بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي انطلق، يا عمر أوفه حقه، أما أنه قد بقي من أجله ثلاث فزده ثلاثين صاعا لتزويرك عليه هذا.

وفي قصة أخرى يزور النبي الأكرم غلاما يهوديا لعيادته، فعن ثَابِتٍ عن أَنَسٍ قال: كان غلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النبي الأكرم، فمَرضَ فَأَتاهُ النبي يعُودُهُ فقعد عندَ رَأسِهِ فقال له: «أَسْلِمْ» فنظر إلى أبيه وهو عِنْدَهُ فقال له أَطِع أَبا القَاسمِ، فأَسلَم فَخَرج النبي صلى الله عليه وآله وهو يقول: «الحمدُ لله الذي أَنقذه من النَّارِ».

الأديان كلها في الأصل دين ربَّاني واحد قائم على العقيدة والشريعة والأخلاق، وهدف الدِّين في أساسه هو إعطاء الإنسان المنهاج القويم يتخذه لنفسه ليسعد في دنياه وآخرته، لذا تبدَّلت الأشكال في قوالب الشرائع، وتوحَّد المضمون، قال تعالى في كتابه العزيز: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ). وكل الأديان مصدرها الله سبحانه وتعالى، حيث ابتدأ بدينٍ، وأنهاهُ بالإسلام، وكوننا نحن عباده فلا بدَّ لنا أن نتبع أوامره ونفعل ما يأمرنا به دون أدنى مقاومة، لأن للخالق الحق والتصرف فيما خلقه، والأمر فيما يراه لخلقه، ولأننا معبودين له فما علينا إلا الاستسلام لأوامره جلَّت عظمته. وعقيدة المسلمين هو الإيمان بأنبياء الله جميعا، وبالكتب المنزَّلة عليهم على أصولها دون أن ينالها تحريف أو تغيير، قال تعالى في كتابه العزيز: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُسُلِهِ) فما دمنا كذلك نعترف بالأنبياء جميعا والأديان والكتب كما أُنزِلت فلم كل هذه الضجّة حول الإسلام ونبيه والمسلمين؟ ولم لا يعترف إخوتنا بنبينا والإسلام؟ أرجو أن تكون هذه النقطة محل اهتمام من قِبل الباحثين المنصفين…

والدستور الذي شرعه الله لنا في القرآن الكريم في كيفية التعامل مع معتنقي الديانات الأخرى هو الدستور العدل، إذ يأمرنا بحسن المعاملة مع المسالمين الذين لا يضرون بأيِّ شكل من الأشكال، أما الذي يضرّك فمن المنطقي جدا أن تُدافع عن حقك، قال تعالى: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

فمن بعض صور التسامح الذي أمرنا به الإسلام، وقررها الرسول صلى الله عليه وآله وفعلها، واتبعها من بعده أهل بيته الكرام، فبعد أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله نبيا في مكة انقلب عليه أهله وعشيرته ووصفوه بالشاعر والساحر بعد أن كانوا يلقبونه بالأمين قبل نبوته لعلمهم بأمانته وحسن عشرته لقومه، فقد كانوا يأتمنون عنده ويحتكمون إليه إن تخاصموا واختلفت آراؤهم، لكنه بمجرد أن بعثه الله نبيا عادوه حتى أخرجوه من بلده، وآذوه ورموه بالحجارة وأدموا أقدامه إلا أنه كان عطوفا عليهم رحيما بهم ، فلم يدع عليهم بالإبادة بل دعا الله سبحانه وتعالى بأن يخرج من أصلابهم من يكون عضدا لهذا الدين، وحين خضعت له مكة ودخلها فاتحا لم ينتصر لنفسه، ولم يأخذ بحقه ممن آذوه أبدا إنما خاطبهم قائلا: «ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وآله: اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لي ولكم». فإن كان رسولنا الأكرم فظًّا غليظًا كما يتهمونه بعض المستشرقين، لقد كان أول ما يفعله بعد أن فتح هو الانتقام ممن آذوه أشد انتقام، لكن ذلك لم يكن أبدا، إنما نثر الورد في طريقهم، بعد أن نثروا له الأشواك، وهذا مثال بسيط من حياته المليئة بالعفو والصفح حتى عن ألدّ أعدائه.