خارجون عن النسق.. جوزيبي سكاتولين

جوزيبي سكاتولين: ما يدعو له الإسلام من فضائل يتردد صداه في أعماق كل إنسان سويّ.

د. هاشم الموسوي   

لاشك ان الاستشراق له مناهجه التي لعبت دوراً بارزاً في صياغة التصوّرات الغربيّة السلبيّة عن الإسلام، فقلَّما تجد  مجالاً لم يتناولونه بالبحث والدرس، وفي الجملة فقد كان للاستشراق أثرٌ كبيرٌ في خلق أزمة المثقّفين المحدثين في العالم الإسلامي، من خلال تطبيق مناهجه في مؤسساته العلميّة، وعن طريق أعدادٍ كبيرةٍ من الطّلبة تلقّوا تعليمهم في الغرب. ومع كل ذلك فإن ثلة من المستشرقين وقفوا حياتهم لدراسة الدّين الإسلامي في جوانبه كافّة، وأقيم لآرائهم واجتهاداتهم وزنا كبيرا، فقد أثاروا مجموعة من النقاط الجوهرية التي عالجوها بموضوعية وإنصاف يبعدهم عن النسق الاستشراقي المعروف بالهيمنة والمرتبط في أغلب الأحوال بنظرية التمركز الأوربي وإقصاء ما سوى الأوربيين من أحقية التفكير السليم الذي يحتاجه الناس أينما كانوا.

ويعد المستشرق الدكتور (جوزيبي سكاتولين (الإيطالي الجنسية وأستاذ الفلسفة والتصوف الإسلامي واحدا من  أبرز المستشرقين دفاعاً عن الإسلام وحضارته، فهو يرى أن صورة الآخر يسودها التعصب سواء لدى الغرب لا سيما إن كان الآخر عربيا أو مسلما، كما يرى أن القيم الروحية في الأديان من شأنها خلق حوار حضاري بين الجميع، وقد طالب هذا المستشرق بضرورة الانتباه لخطر العولمة التي تستهدف السيطرة على العالم دون تفرقة بين عربي أو أوروبي، أو مسلم ومسيحي، فالأديان السماوية مصدرها واحد هو إله العالمين جميعا تجد تعاليمه متجسدة في مبادئ التسامح الديني والممارسة العملية لفهم أصل الاديان وطريقها لزرع المحبة للبشر هو طريقها لحب الإله ذاته، الذي هو طريق الخلاص للبشرية من أدران الاقصاء والتهميش والعنف مع المختلف عنك في الدين واللغة والجنس والثقافة، وهو ما تهدف إليه العولمة لفرض ثقافة رأي أحادي وبالقوة على سبعة مليارات إنسان، وهذا مرفوض عقليا ودينيا.

بدأ هذا المستشرق عام 1969 من لبنان بتعلم اللغة العربية وآداب القرآن والحديث النبوي، وقرأ التاريخ الإسلامي وأعجب أشد الإعجاب بنماذجه الإنسانية الزاهدة في الحياة وفي السلطة والجاه والمنقطعة إلى ربها لا ترى في غيره خيرا ولا أملا، ثم زار السودان ومصر لدراسة اللغة والأدب العربي بكلية الآداب جامعة القاهرة ثم الفلسفة الإسلامية، وتخصص في التصوف الإسلامي الذي أعد فيه أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، كما قام بتحقيق دواوين بعض شعراء العربية بطريقة علمية أكثر موضوعية وشمولاً عن التحقيقات السابقة، وأصدر منذ نحو سنوات مجموعة من الكتب التي ترجمت إلى العربية عن لغته الأم الإيطالية. كما ترجم سلسلة كتب من التراث الصوفي الإسلامي إلى اللغة الإيطالية، منها ثلاثة أجزاء مطبوعة ، كما ترجم كتاب) في التصوف الإسلامي) تناول فيه الخطوط الرئيسية للسلوك الصوفي في الإسلام، فضلا عن تأليفه كتاباً عن الإسلام والحوار الديني يدعو فيه إلى مبادئ للحوار الديني بين الإسلام والديانات الأخرى،

وقد كشف سكاتولين في كتابه: (تأملات في التصوف والحوار الديني.. من اجل ثورة روحية متجددة) تأكيده اليقيني الذي لازم قناعاته الفكرية بخصوص كون جوهر الدين الإسلامي ينطوي على ثورة الانسان الحقيقية من أجل الحرية والعدل والسلام التي لن تأتي الا بغسيل القلوب والعقول، وليس بالعنف والصدام مع المختلف عنك في المذهب والطريقة والدين والملة والاعتقاد

ويرى هذا المستشرق العاشق للمبادئ الروحية للإسلام والتي يعتنقها فيه عدد كبير من الرجال والنساء عاشوا الدين ليس كممارسة خارجية سطحية، ولكن بوصفه خبرة عميقة تغير الإنسان لأن المشكلة الحقيقية في الإنسان تكمن في رأيه  بان يغير المرء قلبه وذاته وضميره لكي يكون إنساناً، أما الممارسة الدينية الخارجية فقد تأتي للتظاهر بالتقوي أمام الناس وليس كخبرة ذاتية عميقة، وهذه الممارسة الخارجية لا تغير الإنسان ولا تصنع فرقاً في جوهره لذلك يضرب (سكاتولين) أمثلته في كتابه من الرعيل الأول لتلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) من المتصوفة الذين ركزوا على تغيير قلب الإنسان. وسيجد المتابع مصداقا لذلك في تاريخ التصوف الاسلامي الذي كان في أساس نشأته ثورة ضد استبداد بني أمية واستبداد طبقة الأغنياء في ذلك الوقت حيث امتلأت الدنيا جوراً وفساداً  في القرن الأول الهجري.

 ولعلّ الزهاد الأوائل ممن تأثروا بنظرة الإمام علي (عليه السلام) كانوا في حالة احتجاج على مفاسد مجتمعهم وكانوا يريدون ان يرجعوا الي أصل الدين من زهد وتواضع وعبادة، اي أن التصوف في الأصل كان ثورة ضد الفساد وهذه الثورة لا تكتفي بالثورة على الفاسق ولكنها تريد ان تغير الإنسان، ولذا تجد هذه الأمثلة تطبيقها الرائع في نماذج الزهّاد الحقيقيين من المسلمين، فالمقام الأول أو الخطوة الأولى في مسالك الصوفية هو التوبة النصوح، أي أن على الإنسان ان يتوب الي الله (سبحانه وتعالى) توبة لا رجعة فيها لما يجرح مشاعر التائب الذاتية، لأن هناك عوامل عديدة تبعد الإنسان عن ربّه، وهذه المجاهدة الروحية الإنسانية لها متشابهات ونظائر في كل الأديان السماوية، فعلى الإنسان ان يتوب معلنا وخاتما توبته بتوقه للحظة اللقاء بالرب العظيم خالق الأكوان.

ويذهب (سكاتولين) إلى أن ما يحدث من خصومات في كل مجالات الحياة يرجع الي ان الإنسان لم يحقق هذه التوبة مع ربّه، وقد يمنع الإنسان عن إعلان توبته تمسكه بمصالح اقتصادية وسياسية وشخصية، فعندما يصير الإنسان عبداً لمصالحه الشخصية وخاصة المالية والسلطوية يفقد وجود الحقيقي وينسى نفسه ليكون مصدرا للفساد ومثالا للجشع، لذلك فإن طريق مجاهدة النفس الذي أقرّه الإسلام وحثّ عليه نبيه الكريم وأهل بيته الذين كانوا مثالا رائعا للزهد والبساطة والخشوع على ما هم عليه من منزلة ربانية واقتدار جعلت أمير المؤمنين الذي يحكم دولة تضم في زمانه رقعة جغرافية تمتد من أفريقيا إلى أواسط آسيا جعلته يستحي من ربه أن يجمع نوعين من الطعام في مائدة واحدة.

ويراهن (سكاتولين) على القيم الأخلاقية الإنسانية المشتركة بين البشر، لأنها الأساس الوحيد الذي نبني عليه مجتمعاً تشاركياً متفاعلا ومتحابا، ويجب ألا يعيش أي دين قبلياً ومنطوياً ومرتكزاً على ذاته، فالدين في هذه المرحلة من التاريخ البشري يجب أن يكون متفتحاً ومنفتحاً على الآخر متقبلاً كل القيم التي توجد في الآخر، فهو كمسيحي عليّه واجب تقدير كل القيم الروحية والأخلاقية الموجودة في الإسلام واحترامها، كما أن أهل الديانات الأخرى عليهم الواجب نفسه، فكل دين في تاريخ البشر فيه كنوز من الحكم والأخلاق والرؤية والممارسات الروحية، وهذه كلها كنوز يجب على كل إنسان أن يستفيد منها، وإلا فنحن نبني حضارة ليست لها قيم، حضارة مادية خالية من الروح التي تؤكد على أهمية تلبية متطلباتها كل الأديان السماوية على حدّ سواء.