ظاهرة الوحي القرآني في الدرس الاستشراقي

ناصر الخزاعي

يعود اهتمام اللاهوت المسيحي بالقرآن الكريم ولغته إلى القرن الثامن الهجري، فبعد ظهور الإسلام بسبعة قرون وتحديدا في العام (711هـ) الموافق (1311م) قرر أحد أكبر مجامع كنائس فينا  بالنمسا إنشاء خمسة كراسٍ لتدريس اللغة العربية وآدابها في أكبر خمس جامعات أوربية آنذاك هي ( باريس، أكسفورد، بولونيا، سلمنكا، وجامعة الإدارة المركزية البابوية).
وبمرور الزمن تطورت المباحث والدراسات الفكرية واللغوية التي قامت بها هذه المراكز والمعاهد التي أنشئت لأغراض تتيح للغربي المسيحي الهيمنة والتسلط على الشرقي المسلم من خلال تفكيك معارفه الخاصة والإلمام بأصول هذه المعارف لاكتساب القوة في مواجهته ومحاربته من خلال امتلاكه القدرة على تفكيك هذه المعارف ومحاولة تقويضها .
وللوحي في أصل اللغة استعمالات ودلالات كثيرة منها: الإلهام الفطري أو ما يلقيه الله من كشف في روع الإنسان قال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه)، ومنها وسوسة الشياطين للنفس البشرية، قال تعالى:( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ومنها ما يلقيه الله من تعايم وأوامر ليفعلوها قال تعالى: ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة)  ومنها الإلهام الغريزي للدواب والحيوانات والحشرات قال تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل، أما دلالة الوحي الشرعية فهي تتضن إبلاغ الله تعالى لمن يختاره ويصطفيه من البشر لتلقي رسالة سرية أو علنية بدون وساطة أحيانا أو بوساطة ملك مطيع هو (جبريل عليه السلام) أحيانا أخرى.
ومن دون الخوض في الصور والكيفيات التي يتجلى من خلالها جبريل لتبليغ الرسالة الموكل بها نوجز القول بأن نزول الوحي لا يتعارض مع مبادئ العلم ولا مع قوانين المنطق العقلي لأن الشواهد التي تزخر بها الحياة ولا سيما المعاصرة منها تدلل على إمكانية حدوث ظاهرة الوحي ما دامت الحياة غنية بالأسرار والحقائق التي لم تكشف بعد، وهناك الكثير من الدلائل والشواهد التي تناقلها مفسرو القرآن الكريم على مر العصور للتدليل على إمكانية حصول (ظاهرة الوحي) أو ما يشابهها على الأقل من الناحية العملية الواقعية .
وقد كانت الطريقة التي تعامل من خلالها المستشرقون وظاهرة الوحي مدعاة للدراسة والتساؤل لكون هؤلاء المستشرقين يمثلون بالنتيجة كائنا آخر لنا كمسلمين أو هم مرايا تتجلى فيها صورة الإسلام وأهله، فلا غرابة أن نجد كثيرا من المستشرقين المنصفين اعتنقوا هذا الدين لمّا وجدوا فيه كثيرا من الإجابات عن أسئلتهم الفلسفية والعقلية وكثيرا منهم قال الحقيقة كما هي دون تحريف أو تزييف، لكننا مع هذا نجد البعض منهم اصطدموا بعقبة كأداء وهم يتعرضون لهذه الظاهرة التي لم تستوعبها عقولهم فأنكروها أشد الإنكار عادّين محمدا مصلحا اجتماعيا وبليغا مفوها استطاع المجيء بقرآنه اعتمادا على ما يمتلكه من مؤهلات ومكاسب بيئية صرفة لا علاقة لها بالسماء لا من قريب ولا من بعيد، ولعل إنكارهم للوحي هو الذي قادهم بالتالي إلى إنكار المصدر الإلهي للقرآن الكريم، ومن ثمّ إلى قولهم ببشرية القرآن وبشرية الدين الإسلامي برمته .
يرى المستشرق الفرنسي المشهور (جوستاف لوبون) وهو من أشد المتحاملين على ألوهية الوحي وقدسيته فيقول مفسرا ما يعتري رسولنا الأكرم عندما يغشاه جبرئيل: إن تصرفات محمد عند نزول الوحي ما هي إلا نوبات صرع يتبعها احتقان وغطيط وغثيان، وإن مسألة الوحي كما يعتقدها المسلمون بحاجة إلى إعادة نظر على وفق ما يعتري نبي الإسلام محمد من هذه النوبات الدورية!
في حين ذهب معاصره الإنجليزي (مونتجمري واط) إلى إنكار ظاهرة الوحي برمتها لكنّه نزّه رسولنا الأكرم من أن يعتريه هوس أو صرع أو ما شابه ذلك من أمور لها علاقة بالطب النفسي أو الأمراض النفسية مفسّرا القرآن الكريم بكونه حالة من حالات الخيال العبقري وإن مصدر القرآن الكريم ما هو إلا الخيال الخلّاق المعبّر الذي تمتع به الرسول محمد (صلوات الله عليه وعلى آله).
وقد تبنى هذا الرأي مستشرق آخر هو ( رودنسون) الذي قال أن الوحي لا يمكن تفسيره على أنه نوع من أنواع الصرع أو الأمراض النفسية العصبية، مثلما لا يمكن تفسيره على أنه علاقة بالجن كما كان ينظر لعلاقة الشعراء بالجن والشياطين، وإنما هو نتيجة لوصول الرسول محمد إلى إحدى درجات التصوف التي تتيح له اتحادا بالذات الإلهية واندماجا يجعلانه قادرا على المجيء بمثل هذا الكلام الساحر العبقري ككلام القرآن الكريم.
أما المستشرق المشهور (جولدتسهير) المعروف بدقة بحوثه في العقيدة الإسلامية وتبحره بتاريخ المسلمين وعقائدهم وآرائهم فيرى أن رؤية النبي الأكرم وعبقريته في القرآن الكريم ماهي إلا نوع من أنواع التكييف الفلسفي والفكري لعقائد وأفكار الديانات التوحيدية التي سبقت الإسلام واطلع عليها الرسول الأكرم بسبب أسفاره الكثيرة وبسبب معرفته الشخصية لها بحكم قربها من بيئته الخاصة، لا سيما وأن العرب قد عرفوا الديانتين السماويتيين السابقتين للإسلام وهما الديانة اليهودية والديانة المسيحية وقد دان بعضٌ من العرب زمن الرسول بإحدي هاتين الديانتين إلى جانب ديانتهم الأولى الوثنية (الصنميّة).
ولعل الحجج التي تذرع بها المستشرقون أوهى من أن تناقش أو يرد عليها، فرسولنا الأكرم لم تبدُ علية أية أعراض لمرض الصرع أو الأمراض الأخرى القريبة منه كما تنقل لنا كتب السيرة التي وصفته بتكاملية العقل وبالحكمة منذ شبابه الباكر وهناك قصص وشواهد كثيرة تناقلها الرواة والمؤرخون تثبت ذلك، أما الرأي الذي ذهب إليه (واط) من كون القرآن محصلة للعبقرية وللمخيال الجمعي المبدع فهو رأي منقوض لكون واط ينتهي بأن الأنبياء الآخرين غير محمد مصدرهم الله! فلم لا يكون نبينا ناهلا كلام قرآنه من المصدر نفسه؟
ولما كان القرآن معجزا وشديد البلاغة باعتراف المشركين أنفسهم فلم لا ينسبه محمد (صلى الله عليه وآله) إلى نفسه كي يفخر بذلك. وهو ما غرب عن ذهن مفكر ومؤرخ كبير مثل (جولدتسهير) الذاهب إلى أن محمدا لم يكن نبيا وإنما هو مصلح اجتماعي تهيّأت له فرصة الاطلاع على ديانات وثقافات الأمم القريبة من بادية الجزيرة العربية. في حين عبّر عن ذلك القرآن الكريم في مواضع عديدة مدافعا عن ألوهية مصدر هذا الكلام وقدسيته واختيار الله لهذا النبي العظيم مبلّغا بالحق وصادعا بما أمره به ربّه الكريم، قال -تعالى- في محكم كتابه العزيز: ( والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى).....