!الاستشراق بين سلطتين

د. هاشم الموسوي

ما معنى أن يصرّح أحد بابوات روما في إحدى المرات قائلاً: إن الكرسي الرسولي (أي سلطة الفاتيكان) يسعى إلى التدخل لدى حكام الشعوب والمسؤولين عن مختلف المحافل الدولية، أو الانضمام إليهم بمحاورتهم أو إخضاعهم الى الحوار الذي يحقق مصلحتنا كمسيحيين وسط صراعات عديدة؟!، وإلى أي مدى تدخل في تحقيق هذه المصلحة مساهمة الاستشراق بوصفه نشاطاً مرتبطاً بمصلحة الكنيسة، منذ تاريخ نشوئه قبل قرون عديدة تعود إلى أيام الحرب الصليبية الأولى التي شنت ضد الديار الإسلامية وحتى يومنا هذا؟!

تشير العديد من الدلائل والوثائق والشواهد على تضافر السلطتين الرئيستين في أوربا (أي السلطة الدينية والسياسية) على السعي لمجابهة الإسلام واقتلاعه من جذوره، وحثّ الناس أو إكراههم على إبدال ديانتهم الإسلامية بالمسيحية في قارات العالم القديم لاسيما بعد خروج أوربا من قمقمها القر- وسطي وتوجهها صوب أفريقيا وآسيا وما بعد عالم البحار بغية السيطرة والهيمنة ونهب الخيرات وإذلال الشعوب.

لم يكن الاستشراق بمؤسساته المدعومة من السلطتين المذكورتين يقف موقف المتفرج، بل كان يقدم الدعم والمشورة القائمة على المعرفة الحقيقية بهذه الشعوب ودراسة تاريخها وثقافتها ولغتها وأدبها وعاداتها وتقاليدها دراسة علمية دقيقة ومستقصية لكل بعد من أبعاد هذه الشعوب في التاريخ والجغرافيا و الأنثروبولوجيا واللغة والنفس وما إلى ذلك من الصُعد الأخرى التي تشكّل حضارة هذه الشعوب بهدف إعادة تفكيكها.

وقد دخل الاستشراق بقوة في الدفع بعملية الصراع الحضاري بين قوتين كبيرتين هما أوربا المسيحية والشرق المسلم، ولم يخفِ توجهه ونواياه في إدارة كفة الصراع كما لم تخفِ أي من السلطتين (الدينية والسياسية) في أوربا نواياها في الهدف الذي يجرون وراءه منذ العام (1095م) عام الهجمة الصليبية الشرسة على دار الإسلام عندما أعلن البابا (أوريان الثاني) وهو يهودي الأصل عن ضرورة كسر شوكة الإسلام بتضافر جهود أوربا دينياً وسياسياً وباسم الرب من أجل القضاء على الإسلام وإبادة المسلمين في عقر دارهم.

والغريب أن الهدف القديم ذاته أعلنه لاحقاً صراحةً البابا يوحنا بولص الثاني، حينما طالب علناً بإعادة تنصير العالم بتاريخ (1983) في "كمبو ستيل" إحدى مدن الشمال الإسباني، ويقصد البلدان التي كانت ترزح تحت براثن الإلحاد قبل أن تدخل في الإسلام، مثلما أعلن عن ضرورة اقتلاع الإسلام نفسه، حتّى لا يبقى على الصعيد العالمي سوى كاثوليكية واحدة هي كاثوليكية روما التي ستتوحّد تحت خيمتها الأمم والشعوب لتنعمَ بسلام المحبة وتسعد بدين التعايش والتسامح!

إن محاربة الإسلام لم تتوقّف يوماً ولن تتوقف حتى قيام الساعة، وقد عرفت هذه المحاربة ألواناً من الشدّة والضعف بحسب المواقف السياسية والدينية في العالم، وقد كان الاستشراق دائماً هو عرّاب العلاقة بين السلطتين وتشهد على ذلك كثرة المؤتمرات العلمية التي تعقدها دوائر الاستشراق ومعاهدات لتوثيق الصلات والروابط بين سلطتي الدين والسياسة في الغرب من أجل دراسة سبل التوغّل وكيفيات الاختراق المنظم للعالم الاسلامي من أجل إجباره على التنصير أو إبادته إذا لزم الأمر ذلك.

وربما كان أبرز هذه المؤتمرات التي عقدت برعاية السلطتين آنفتي الذكر وبإدارة مؤسسات الاستشراق الأوربي والامريكي هو مؤتمر (لوزان 1974م) لإشاعة المسيحية والتنصير العلني، ومؤتمر (كولارودو 1978م) في أمريكا الذي حضره أكثر من مائتي مستشرق متخصص في الثقافة الاسلامية مسخَّرون كلهم لإيجاد الطرق الناجعة لتنصير المسلمين وحثّهم على ترك دين آبائهم وأجدادهم وإتباع ملل الآخرين.

فضلا عن وجود العشرات من المنظمات والمؤسسات الدينية الطابع والمدعومة سياسياً، كمؤسسات (ايمانوئيل) و(أسد يهوذا) و(الصحوة الكارزماتية الكاثوليكية) و(عمل الرب) و(القربان والتحرّر)؛ وكلها مؤسسات غامضة ومدعومة مالياً من الجهات السياسية ولها غطاء ديني كهنوتي، وتتولّى هذه المؤسسات والمنظمات شؤون التخطيط والإعداد وطباعة الكتب وإلقاء المحاضرات وعقد اللجان والندوات المتعلقة بشؤون التنصير في البلدان ذات الغالبية الإسلامية، علماً أن أغلب من يدير هذه المؤسسات والمنظمات رجال متعلمون ومتخصصون بالإسلاميات والعقائد واللغات والآداب الشرقية، وعلى أعلى مستوى من طبقات المستشرقين المحترفين.