دور الجامعة في تنمية الفكر العربي

البروفيسور علي عبد فتوني - لبنان

شكلت القومية العربية الرابطة الكبرى للشعوب العربية، والتي جعلت منهم أمة واحدة بأضيق المعايير القومية وأوسعها على السواء، أمة بلغت من المكانة التاريخية أنها من صناع الحضارة الإنسانية، ومن ناشريها، ومن المكانة الإقتصادية أنها تملك أكبر مقدار من أهم مقوم للصناعة الحديثة وهو البترول.

القومية العربية ليست من صنع هذا العصر ولا من إختراع أهله، ولا نبتت تحت ضغط ظروفه، ولكنها حقيقة من حقائق التاريخ الكبرى وقانون من قوانينه الثابتة، فالتاريخ يثبت بما لا مجال للشك فيه أن القومية العربية ضرورية للعرب ولسلامتهم، ويكفي أن نستعرض التاريخ العام استعراضا عاما، لنرى أن كل خسارة خسرها العرب وكل هزيمة منوا بها إنما حدثت في فترات ضعف هذه القومية.

أزاء ذلك نقول أنه على الشعب العربي أن  يكون إستمرارا لتاريخ أمته، تحيا فيه القومية العربية التي عاشت عليها أجيال من أسلافه ، وإلا انقطع هذا المواطن عن تاريخه وانقطع تاريخ أمته به، ونوع هذه المواطنة تحتمها ضرورات الحاضر كما تحتمها مقتضيات التاريخ، فالعالم الذي يواجهه العرب الآن غير العالم الذي كانوا يواجهونه في ماضيهم، وإذا كانت القومية العربية من أدواتهم في الماضي ، فهي ألزم لهم في الحاضر وستكون أكثر لزوما" في المستقبل, فنحن لا نعيش الآن بمفردنا في هذا العالم ، كما كنا نعيش في العصور الماضية مع أشباح أمم أو لا أمم , وإنما نعيش اليوم في عالم يتكون من أمم قوية، وفي عالم تسيطر عليه فكرة الإستعمار، بل إن الإستعمار الآن يتحضر لكي ينقض أقوى مما كان في الماضي.

إننا نعيش في عصر العلم والصناعة والإختراع، تعددت فيه المذاهب الإقتصادية والسياسية والقومية، ووضع العلم الحديث في يد كل منها الوسائل التي تجعل كلمتها مسموعة .

في ضوء ما تقدم من سمات المجتمع العربي نستطيع أن نحدد المسؤوليات التي يجب أن يضطلع بها هذا المجتمع في حركته السريعة نحو الحياة الأفضل ، إذ يحتاج الى تجميع كل قواه العاملة وتدريبها وإعدادها كي يتخطى بها كل الموانع التي تعترض طريقه.

المجتمع العربي في إنطلاقته البناءة نحو مستقبل مشرف ، يحتاج الى تنظيم طاقاته، وتجنيدها في صفوف متكافلة متعاونة متساندة، كي يقتحم بها كل العوائق التي تعطل سيره، وكذلك أسلوب عملنها لتحقيق أهدافنا العظمى يجب أن يتسم بالإصرار على سلامة التخطيط ، والدقة والتنفيذ ، والأمانة في المتابعة والتقويم ، وصولا" الى زيادة الإنتاج ومضاعفة الدخل القومي, فقدر الإنتاج هو التحدي الحقيقي أمام كل مواطن عربي يعمل في أي ميدان ، وهو المقياس الحقيقي لقوتنا الذاتية وكفايتنا في كل زمان ومكان . فعلينا إذن لكي نصل الى غاياتنا  التي ننشدها في معركة التنمية وزيادة الإنتاج، أن نوجه سياستنا التعليمية ونناقش أهدافها ونظمها وكل ما يتعلق بشؤونها في الإعداد والتدريب بقصد تنمية الفكر العربي الوحدوي ، والنهوض بالمجتمع في شتى دروب حياته وجوانبها ، وإعداد كل القوى البشرية العاملة ، إعدادا" شاملا" كاملا" ، تتوافر فيه كل عناصر المواطنة المستنيرة الواعية ، وتزدهر فيه المهارات والكفايات ، بأحجام ومستويات تتناسب ومخططات تنمية المجتمع العربي في سعيه الحثيث نحو تبوء مركزه اللائق به بين المجتمعات المتقدمة .

لا شك أن التقنية هي نتاج تطور المعرفة البشرية ، وبدورها تسهم هي أيضا" في إثراء هذه المعرفة ، وبسبب هذه العلاقة السببية المتبادلة تنمو المعارف بسرعة لم يعهدها التاريخ الإنساني من قبل, وقد نبعت هذه السرعة أساسا" من نظم التعليم الجديدة التي تم تطويرها خلال القرن الماضي فغيرت طبيعة التعليم تغييرا" كبيرا" .

فالتربية سواء بصفتها متغيرا" تابعا" للتحول المجتمعي أو محركا" أوليا" لهذا التحول هي بحكم دورها وطبيعتها أكثر جوانب المجتمع عرضة للتغيير، بناء على ذلك فالمتغيرات الحادة التي ينطوي عليها عصر المعلومات ستحدث بالضرورة هزات عنيفة في منظومة التربية والتعليم : فلسفتها وسياستها ودورها ومؤسساتها ومناهجها وأساليبها، وليس بجديد القول أن كل تغيير مجتمعي ، لا بد وأن يصاحبه تغيير تربوي تعليمي ، إلا أن الأمر نتيجة للنقلة النوعية الناجمة عن تكنولوجيا المعلومات ، لا يمكن وضعه بأقل من كونه ثورة شاملة في علاقة التربية والتعليم بالمجتمع .

وفي السياق ذاته ، نشير الى أن التعليم في الوطن العربي ، ظل لفترات طويلة يعالج على أنه خدمات ، إذا أمكن في مراحل سابقة أن نتعايش مع هذا المفهوم ، فإن الأمر يختلف تماما" اليوم ، إن التعليم يشكل أساسا" للأمن القومي في المجال السياسي والإقتصادي والعسكري .

لذلك على الوطن العربي أن يتحرك بسرعة وفاعلية ليلحق بركب ثورة المعلومات والتكنولوجيا في العالم، لأن من يفقد في هذا السياق العلمي مكانته لن يفقد فقط صدارته ، وإنما سوف يفقد قبل ذلك إرادته,  ومن الضروري أن يتم هذا التحرك ، وهذا التغيير بطريقة ديمقراطية وبأسلوب علمي ، بحيث تتحقق مشاركة جميع الفئات والأفراد صاحبة المصلحة في التغيير والتطوير ، وبما لا يهمل نتائج العلوم التربوية والنفسية ، وأهم معطيات العلم والمنهج العلمي , وفي هذا المجال يبرز دور الجامعات في الوطن العربي ، لأن وظيفتها المحافظة على العلم وتراثه، والكشف عن حقائق جديدة فيه ، ووضع النظريات والمبادئ والأصول للفلسفة الحديثة للمجتمع العربي ، بفرض تدعيم أهدافها وتثبيت أركانها ، كما أن مهامها تتضمن التجريب في الغامض والمجهول ، ثم نشر ما تتوصل إليه من حقائق ونظريات ومبادئ تضيء الطريق الى آفاق أوسع وأرقى .

وهذه الصحوة العربية الهادفة تحتم على جامعاتنا أن تتفاعل مع مشاكلنا ومسؤولياتنا وتطلعاتنا ، وأن تعنى بجميع ضروب التطور وأبعاد التنمية, ومن ثم ينبغي أن يعيش الأساتذة والطلاب في ظروف مجتمعاتهم ، يناقشون مشكلاتها ويبحثون عن علاجات لها ، يحللون واقعها ويكشفون عن آفاق أرحب وأيسر لرخائها ،  يقومون نتائج وحداتها العاملة ، ويعملون على زيادة إستثمارها, بهذا التفكير والإتجاه يصبح من الضروري أن تكون الدراسة في الجامعات النظرية يغلب عليها طابع البحث والتجريب والكشف . وفي هذا الإطار أيضا" يجب أن تتنوع الدراسات وتتكاثر في إتساع وعمق بما يقابل حاجات المجتمع وخطط تنميته ووحدته الفكرية.

ونعاود الحديث من زاوية أخرى عن رسالة الجامعة لنقول أن من الواجب ألا تقتصر تلك الرسالة على التحصيل العلمي أو البحث ، فالحياة الجامعية نفسها وثيقة الصلة بحياة المجتمع . ولذلك فإن  دور الأساتذة والطلاب في بناء المجتمع وتحديد إتجاهاته من الأهمية بمكان، وعلى هذه المؤسسات العلمية أن تعنى بالمثل والقيم ، وأن تضع النظريات والمبادئ والأنماط والشعارات لفلسفتنا الجديدة ، وأن ترسم الطريق للتطبيق العلمي للفلسفة التي يختارها المجتمع ، وأن تبث في ميادينها بشتى الطرق والوسائل روح العمل والتعاون والفداء والتضحية  من أجل تحقيق تلك المثل في كافة الهيئات العربية .

 تأكيدا" لهذا الهدف وغيره من الأهداف نرى علاوة على ما ذكرناه ، أن تتصل الجامعات العربية بعضها بالبعص الآخر إتصالاً وثيقا" ، يمكنها من التعاون فيما ببنها لصالح الدول العربية ، وللتنسيق في مخططاتها وتخصصاتها ، فضلا" عن تبادل الأساتذة والبحوث ، وتنظيم المؤتمرات وحلقات البحث ، ورسم الخطط لدفع الحركة العلمية والفكرية للآفاق التي يتطلع اليها المواطن العربي في كل مكان ، وعلى غرار التقدم التكنولوجي الحاصل في العالم . وفي مواجهة التحديات المستقبلية يجب علينا في كل دولة من الدول العربية أن نعي جيدا" التحديات التي تواجهنا ، وأن نتفهم لغة العصر الجديد الذي تحكمه آليات السوق ، قانونها الأوحد المنافسة والتمايز ، ولا نستطيع أن نهرب أو نخرج عن قوانين هذا النظام ، فتلك حقيقة يجب أن نستوعبها جيدا" ، تفرض على كل منا أيا" كان موقعه أن يستوعب حقائق هذا العصر الجديد ، وأن يستعد له بشكل دائم .

إن الوطن العربي يمر بمرحلة حاسمة في نموه وتقدمه ، وهذه المرحلة تفرض على الجامعة ، وعلى أصحاب المسؤوليات مواكبة التغيير والتقدم الذي يحيط بنا ، ونحن في حاجة ماسة في كل هذه الأمور لدعم الجامعة ، والى دعم التعليم المتطور الذي يسلح الشعب بالخبرات والقدرات . والجامعات بدورها في إطار النظام الجديد ، لا تستطيع أن تقف بمعزل عن هذا التطور ، ولا أن تهرب من المنافسة مع جامعات العالم المتطورة ، والمنافسة في أساليب التعليم الحديثة ، المنافسة في تقديم الخدمات ، والمساهمة في إيجاد مصادر تمويل جديدة تستطيع أن تدعم بها أجهزتها ومكتبتها وأساتذتها .

لا بد أن تقتحم الجامعات العربية هذه المجالات وأن تنافس بروح جديدة ، وأن تؤمن مصادر جديدة للتمويل ، وأن تسير قدما" في إرتباط أكثر عمقا" بالمجتمع وإحتياجاته ، وأن تراعي ضرورات السوق والتحديات التي تواجه المجتمع العربي.

الجامعة هي منارة المجتمع ، ولكن لا نريد ألا تكون تحركاتها ردود أفعال لمواقف معينة ، بل يجب أن تكون إيجابية في تشكيل المستقبل ، وأن تكون نظرتها المستقبلية هي الطريق السليم الذي يوصلها الى غايتها . هذا ما نطلبه من عملية تطوير التعليم الجامعي ، حتى تؤدي الجامعات رسالتها على ما يرام ، لأن تطور الجامعات حسب حاجات المجتمع وخططه في التنمية وبناء الشخصية الوطنية والقومية سيبقى ملازما" في كل الأزمنة والأمكنة للدول التي تنشد الإنتقال من التخلف الى التقدم.