مسلمو فرنسا قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية لا يستهان بها

ناصر الخزاعي

يتجاوز مسلمو فرنسا اليوم الخمسة ملايين مقتربين من الستة ملايين مشكلين بذلك قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية لا يستهان بها، ويعد الوجود الإسلامي في البلاد الفرنسية الأقدم في البلدان الأوربية نتيجة لقرب فرنسا كبلد استعماري من بلاد المسلمين حيث جرت أول هجرة إلى فرنسا بتاريخ 1914م قدم فيها قرابة الثلاثين ألف جزائري ومغربي مسلم لسد النقص الحاصل في المصانع الفرنسية، وجاوز هذا العدد النصف مليون مع سنة 1950م، نظرا للطلب الشديد من قبل المصانع والمعامل والمزارع الفرنسية للأيدي العاملة الأفريقية وخصوصا الجزائرية والمغربية والتونسية.

 ولعل هذا العدد المتزايد من المسلمين في البلاد الفرنسية جعل المسؤولين وأصحاب القرار من الفرنسيين يدركون أن هذا الوجود لا يمكن أن يكون وجودا عابرا وغير مؤثر، الأمر الذي دعا إلى محاولة تكييف المسلمين وفقا للتقاليد الفرنسية وهو ما عرف بمحاولات (الدمج) الثقافي والاجتماعي نظرا لما تشكله هذه الأعداد الهائلة من خطر على الثقافة الفرنسية وعلى التقاليد الفرنسية الاجتماعية والثقافية.

إلا أن أغلب تلك المحاولات باءت بالفشل فالغالبية من مسلمي فرنسا ظلت متمسكة بالتقاليد والأعراف الإسلامية، وظلت غير منفتحة على المجتمع الفرنسي فالزواج بين الشباب يتم داخل الأسر الاسلامية والتعليم ظل يأخذ بنظر الاعتبار حفظ القرآن الكريم وتدريس علومه بين الأسر الإسلامية التي حرصت على توفير الكثير من مدخراتها من أجل بناء المدارس العربية ومن اجل تشييد الجوامع والمساجد الضخمة في أكثر مناطق المدن الفرنسية حساسية.

  وقد سجلت دائرة الإحصاء والهجرة الفرنسية تنوعا في المذاهب الإسلامية التي ينتمي إليها مسلمو فرنسا، فألى جانب أبناء السنة هناك الشيعة الامامية والشيعة الاسماعيلية والصوفية المنحدرين من أصول غرب أفريقية كالسنغال ومالي وغيرها، وقد امتازت كل جماعة من هذه الجماعات بالقدرة على تنظيم شؤون أفرادها والانفتاح على الجماعات الاسلامية الأخرى في المهرجانات والمناسبات ذات الطابع الإسلامي الخالص كالأعياد وذكرى المولد النبوي، وشهر رمضان، وعاشوراء..

أما الوضع المعاشي لهذه الجماعات فهو الأقل مستوى في عموم البلاد نظرا للتمييز العرقي الذي يجعل الفرنسي من أصول فرنسية مواطنا من الدرجة الأولى له الأفضلية في العمل والتوظيف والتجارة بخلاف مواطني الدرجة الثانية التي تتشكل من غالبية مهاجرة من بلدان شتى، الأمر الذي جعل البطالة متفشية بين صفوف الشبان المسلمين حتى مع حصولهم على الشهادات الجامعية المؤهلة، ويجري الحال نفسه على المهاجرين من غير المسلمين أيضا كالبولنديين والروس والكمبوديين والهنود وغيرهم ممن اتخذ من فرنسا دار إقامة أو ملجأ آمنا، فهم يعانون الأمرّين من أجل الحصول على وظيفة لائقة مما يضطرهم الى الدخول بأعمال يأنف منها الفرنسيون، كالجزارة والزراعة وأعمال البناء وما شابه ذلك.

إن شظف العيش الذي يعاني منه مسلمو فرنسا لا يقارن إذا ما قيس بقضية أخرى تؤرق وجودهم وتنغص معيشتهم وهي (علمانية الدولة) التي لا تبيح قوانينها فتح المساجد في أي مكان يختاره المسلمون، ولا تسمح بغلق البارات وأماكن اللهو المحرم في الاحياء ذات الغالبية الإسلامية؛ ناهيك عن صعوبة الحصول على رخص لفتح مقابر خاصة بالمسلمين تأخذ بنظر الاعتبار تقاليدهم وعاداتهم وطقوسهم في طريقة دفن الموتى، وناهيك أيضا عن ممارسة الطقوس الاسلامية والأعراف والتقاليد الخاصة بالمسلمين كتعدد الزوجات، وإقامة الأذان بمكبرات الصوت، وإحياء ليالي شهر رمضان وعاشوراء، وما إلى ذلك من أمور مستحبة عند المسلمين مرفوضة وفق قوانين البلدان العلمانية.

وربما كان هذا الفقر الذي رافقه كبت واحباط وشعور باللاعدالة من أهم الأسباب التي دفعت بشباب المسلمين الفرنسيين الى اعتناق الحركات الأصولية المتطرفة ومتابعة أمرائها وقادتها السلفيين، كالحركة الوهابية وجماعة الاخوان الذين يجوبون الأماكن والشوارع والحارات والمساجد والأزقة أملا في اقناع الحالمين بدولة على غرار الدولة التي أقامها الرسول الأكرم للدخول في أجندتهم السياسية التي تتخذ من هذا الحلم البريء وسيلة لغسل العقول واستغلال الهمم لغايات ما أنزل الله بها من سلطان.

ومع كل المشاكل التي يتعرض لها مسلمو فرنسا، سواء كانت مشاكل متعلقة بالقانون الفرنسي الداخلي الصارم أم كانت متعلقة بالضغوطات التي تمارسها الدول الاسلامية الكبرى للمتاجرة بهذه الأعداد الضخمة من مسلمي فرنسا فقد استطاع المسلمون في فرنسا وكل حسب انتمائه إثبات هويتهم الثقافية بعد أن استماتوا من أجل الحفاظ عليها مقاومين سياسة الدمج والتذويب التي حرصت عليها سياسة الحكومات الفرنسية المتعاقبة وفشلت فيها مما اضطرها بالتالي الى القناعة بمبدأ الحوار مع هؤلاء القادمين المتشبثين بدينهم وعقيدتهم واسلامهم الذي ورثوه أبا عن جد.