القصة العراقية محاكاة للواقع

صباح محسن كاظم

 من مطلع القرن الماضي تميز المبدع العراقي برصد تحولات الواقع بكافة محمولاته الاجتماعية والإقتصادية والسياسية ،قمة التحول في الستينيات وبداية التجريب القصصي والروائي والتحول نحو نص الواقعية السحرية والفنتازيا وصولاً إلى شعرية القصة بعصر العولمة والسرعة والإختزال بعد جائحة كورونا ..

لقد إنهمك القاص العراقي برصد الواقع العراقي بكل الأجيال الإبداعية بتجربة عشرات الرموز القصصية من المبدعين عبد الرحمن مجيد الربيعي ،محسن الخفاجي ،محمد خضير ، حميد المختار ، محمد الكاظم ، إلى جابر خليفة جابر ، علي السباعي،إبراهيم سبتي، علي لفته سعيد ،علي حسين عبيد ،حمودي الكناني،مهدي زبين.....إلخ من عشرات الأسماء الإبداعية كتبت عن أغلبهم بموسوعة فنارات في الثقافة العراقية والعربية دراسات نقدية.

تجربة القاص هيثم محسن الجاسم :

من التجارب الإبداعية التي إنطلقت بالثمانينيات ولازال يدون قصصه بالعالم الإفتراضي الأزرق ،فضلاً عن الصحافة والمجلات بغزارة ،رغم إهتمامه بعمله الإعلامي ، تجربة "الجاسم " تستلهم الواقع العراقي بإفرازاته السياسية والإقتصادية والإجتماعية عبر التحولات العاصفة من الحروب بزمن الدكتاتورية إلى العنف ورصد إشكاليات البطالة والفساد الإداري ..يكتب بواقعية يضمنها التهكمية بالمفارقة التي يتقنها بقصصها ..جسد ذلك بمجموعاته القصصية التي كتبت عنها لمرتين ..

عودة طائر الفجر - 1998 --- دار المدى ط1- منشورات احمد المالكي 2021 ط3- بغداد

 سؤال بعد الاخير - 2002 ---دار الشؤون الثقافية – بغداد, منشورات احمد المالكي 2021 ط2

 ربما يطلع الفجر - 2002 ---اتحاد الادباء العرب ---دمشق, منشورات احمد المالكي 2021 ط2

 موت الاسم – 2010 ---دائرة الشؤون الثقافية – بغداد, دار مداد 2021 ط2

 موت اخر امراء الاكشاك- 2021- منشورات اتحاد الادباء والكتاب – بغداد

رؤى النقاد بتجربة هيثم محسن الجاسم :

لقد تناول النقد العراقي بعناية تلك المجاميع التي أعاد طباعتها مجدداً لنفاذ نسخها ،وقد إتفق معظم الدارسين الذين جمعهم بكتاب عن تجربته بإنها تمثل الواقع العراقي دون تزويق لفم القرد بوضع أحمر الشفاه لتجميله ،كتب تلك القصص ببراعة من خلال تقنية كتابة القصة من الإستهلال للحبكة للمفارقة للضربة الفنية مراعياً الإختزال . فقد كتب الدكتور "حسين سرمك حسن" عن قصة المأزق احدى قصص المجموعة الاولى للقاص هيثم محسن الجاسم بعنون عودة طائر الفجر. 

(يتناول القاص موضوعة الحرب من زاوية جديدة تثبت أن الأدب الكبير هو الأدب القادر - في جانبه الأكبر -على اثارة التساؤلات في ذهن القارئ حول مشكلات الوجود الإنساني وفي مقدمة هذه المشكلات واولها هي مشكلة : الموت التي برع في توجيه الانتباه اليها الوجوديون . والقاص يقدم تساؤلاته الخطيرة في حبكة بسيطة وفي رداء لغوي بسيط منساب . فهو يتناول ظاهرة غريبة لاحظناها كعسكريين في جبهات القتال ولم تجد لها اي تفسير علمي وهي ظاهرة ( إنتحار) البغال المخصصة للخدمة في الوحدات التي تناط بها واجبات في المناطق الجبلية حيث يرمي البغل نفسه مع حمولته من الجبل فيهوي الى الارض اشلاء محطمة . ولابد في البداية أن نشير الى ان الموت - كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي » في كتابه « الموت والعبقرية » - هو إشكال ومشكلة . فالموت إشكال لاننا نلاحظ من الناحية الوجودية أولا أن الموت فعل فيه قضاء على كل فعل وثانيا انه نهاية للحياة بمعنی مشترك . فقد تكون هذه النهاية بمعنى انتهاء الأمكانيات وبلوغها حد النضج والكمال كما يقال عن ثمرة من الثمار انها بلغت نهايتها بمعنی تمام نضجها واستنفاذ إمكانيات نموها . وقد تكون هذه النهاية بمعنی وقف الامكانيات عند حد وقطعها عند درجة مع بقاء کثیر الامكانيات غير متحقق بعد . وثالثا انه امكانية معلقه إن صح التعبير بمعنى أنه لا بد ان يقع يوماما ولكننا نجهل الزمان الذي سيقع فيه . ورابع أنه حادث کلي  کلية مطلقة من ناحية وجزئي شخصي جزئية مطلقة من ناحية اخرى فالكل فانون ولكن كلا منا يموت وحده ولا بد أن يموت هو نفسه ولايمكن ان يكون واحد آخر بدلا عنه وهذا عين مصدر الاشكال من ناحية المعرفه  اذ لاسبيل الى ادراك الموت مباشرة بوصفه انا الخاص وسيخص ادراكي للموت في حضوري موت الاخرين) تميز سرمك بالقراءات السايكولوجية النفسية للمنجز العراقي سواء بالشعر والسرد وقد إهتم بقصص الجاسم بشكل لافت .

  فيما كتب الاديب النقي الخالد السيد "أحمد الباقري-رحمه الله- " وهو المتابع للمنجز الإبداعي المحلي والأجنبي مهتماً بالجميع ويرعى كل الطاقات بالتوجيه والتصحيح والتدقيق.

(ينتمي هيثم محسن الجاسم تاريخيا الى جيل الثمانينيات إذ بدأ نشر قصصه في تلك الحقبة الزمنية ،غير ان قصصه تختلف عن قصص الثمانينيات التي اكتظت بالمبالغة والابتعاد عن واقع أحوال الحرب في تلك الفترة، انه من الجيل الذي اكتوى بأتون الحرب وعاش أوارها وعبرعنها كما ينبغي ان يعبر بصدق عن الحرب .

يمكن ان نقسم قصصه من حيث الشكل الى قصص فنتازية وقصص واقعية تحمل دلالات رمزية .

فقصة" الحفرة " تتضمن دلالات ايحائية عن واقع الحرب ، ولو انه أغرقها بوصف الطبيعة الجبلية في الشمال ولكنها كانت ديكورا واسعا احتضن احداث القصة التي كانت واقعية ولكنها تحمل دلالة رمزية عن واقع الحياة المريرة في فترة الحرب .

أما قصة" الاحتقان " فهي قصة تتسم بجو كافكاوي وفيها سوداوية مريرة عن واقع الإنسان في مجتمع مريض ، ان فيها إيحاءات من اجواء كافكا. غير ان هذه الإيحاءات تنبعث من افق شديد الحلكة ومن واقع يطبق على أنفاس الكائن ويجعله شديد الاحتقان .

وقصة " رائحة الشواء " فهي قصة جميلة وخاصة بوصفها للطبيعة الريفية وأجواء صيد السمك على الرغم من اسهابه بالوصف لكنه لم يكن يثقل كاهل السرد فكان سردا جميلا حافلا بالصور القصصية الجميلة .

وقصة " المأزق " مقارنة هائلة عن واقع الإنسان في الحرب وواقع البغل الذي يحرن وينتحر… وهو الحيوان الوحيد الذي ينتحر بعد ان يثقل عليه الواقع المرير ، وعلى الرغم من ذلك فان الجنود يضيقون ذرعا حتى القرف ولكنهم يصمدون بدافع حب الحياة الشديد.

في قصة " الخاتم " ثمة استفادة من الموروث الشعبي ، فكانت حكاية شعبية عن خاتم تهبه ام راوي القصة ، غير ان هذا الخاتم يوحي بكابوس رهيب ينبعث من واقع مرعب يجعل الراوي مرتعبا منه ، ولم يستطع ان يرد على الأسئلة التي تثار في مثل هذا الواقع (ويبقى يحدق في الفراغ بنظرات خاوية ).

  أفرد الناقد أ.د مصطفى لطيف عارف  أكثر من دراسة جميلة نشرها بالصحف العراقية والعربية عن تجربة الجاسم بالقول :

(.....لقد أهمل العنوان كثيرا سواء من قبل الدارسين العرب أم الغربيين قديما وحديثا،لأنهم اعتبروا العنوان هامشا لاقيمة له, وملفوظا لغويا لايقدم شيئا إلى تحليل النص الأدبي؛ لذلك تجاوزوه إلى النص كما تجاوزوا باقي العتبات الأخرى التي تحيط بالنص , ولكن ليس العنوان الذي يتقدم النص ويفتتح مسيرة نموه يقول علي جعفر العلاق مجرد اسم يدل على العمل الأدبي يحدد هويته، ويكرس انتماءه لأب ما, لقد صار أبعد من ذلك بكثير وأوضحت علاقته بالنص بالغة التعقيد, إنه مدخل إلى عمارة النص، وإضاءة بارعة وغامضة لأبهائه, وممراته المتشابكة لقد أخذ العنوان يتمرد على إهماله فترات طويلة، وينهض ثانية من رماده الذي حجبه عن فاعليته، وأقصاه إلى ليل من النسيان, ولم يلتفت إلى وظيفة العنوان إلا مؤخرا )

كذلك برأي القاص فاهم وراد العفريت: (هذه المجموعة حملت إرهاصات وتجارب وتأويل وأحداث وتراكيب ومفارقات قد تكون غرائبية مع ماتحمل من تحولات سلبية او ايجابية , وقد استعارت الكثير من الأنماط حتى تكوّن من خلالها المشهد التاويلي الافتراضي لبنية تلك القصص التي قدم لنا من خلالها القاص ميثولوجيا حديثة تتناغم وتنسجم بشكل موحي مع شخوص القصص او زمكانية حدوثها).

 فيما يرى المبدع نعيم عبد مهلهل الذي واكب الجاسم بمسيرته القصصية :(( لقد نجح هيثم الجاسم ليؤسس له نافذة كنا في مرات كثيرة نصغي الى قناعتها وعصاميتها وعزلتها وفي النهاية ان أتاك بقصة قصيرة جدا او بنص قصصي طويل فهو يحدثك عن الذي يشغل نفسه وهو يرى تناقضات هذا العالم وشخوصه التي ابتدأها في قراءاتي الأولى له عندما كان يراقب جحيم حرب اخذ اليها بفعل الإجبار لانه تخرج وعليه ان يذهب لها ، وطالما في بدء تأسيس اتحاد الأدباء في الناصرية ، كنا ننتبه الى هيثم محسن الجاسم وهو يوزع قصصه بينما او نصغي اليها في ندوات القصة فنراه حادا في النقد ويبدو متضايقا من تلك البيئة التي تجمع فيها هواجس الخوف من الشظايا والأوامر التي تجبرك ان تطيع من هو اعلى منك رتبة ،وبالرغم هذا كان هيثم الجاسم يقول لنا في قصصه :هناك في الحرب لن تكون سوى الويلات )).

 فيما كتب الناقد عقيل هاشم :

(قصصه قد تنوعت بين اجناس متنوعة من اشكال القصة القصيرة ، وان القصص المكثفة والصغيرة جدا التي تغطي القسط الأكبر من الصفحات، قد نسجت على منوال الأسلوب التجريبي ، المفعمة بدلالاتها الاستلزامية، وكأن الذات الغاصة بالأسئلة فاضت -ذات لحظة- لتبث اسئلة تمرد بلغة على جنبات الحكي المستعر..العنوان ، أذ نجد الكاتب،قد عمد لهذا العنوان  لما يفصح عنه  من موقف حجاجي، يمكن اختزاله في رؤيا وجودية تسائل تفاصيل الواقع اليومي، المعاد والمكرور، الذي بات يقينا،يشغل كل واحد فينا  . فيكون هذا العنوان منطلق الممكنات الدلالية لاحتكامه إلى الواقع، مطابقة ومنافرة).

يرى القاص والروائي والناقد أياد خضير:

(المجموعة القصصية موت الاسم تعتبر عملاً ادبياً ذات مضمون عميق ينسجم مع الاحداث التي تنوعت بها ، افكار تكشف الحقائق التي تجعل المتلقي يتمتع بها كونها تمنح بهجة تجعل القارئ اكثر تفاؤلاً ومتمتعاً بالسرد المتماسك .

عنوان المجموعة  يحمل دلالات متعددة ، احتشدت  فيه معانٍ  هي العتبة للولوج الى قراءة المجموعة وهي البوابة التي تجذب انتباه القارئ ، هذه العتبة تحث المتلقي على الاستمرار بقراءة القصص لمعرفة خفاياها واسرارها ، العنوان جاء من احدى قصص المجموعة والتي تتكون من احدى وثلاثون قصة قصيرة ).

 القاص والشاعر والناقد د-حسن البصام  يجزم: ((ان اجمل النصوص الادبية ؛هي التي تمكنت من الاحتفاظ بملامحها رغم توظيف التناص الاجناسي؛وتبقى النصوص السردية والشعرية هي الاقرب حد العناق، رغم التداخل والتعاشق والتماهي بين الاجناس الاخرى ، حتى اصبحت التسميات متشابهة رغم اختلاف جينات النص .لذلك ماعادت الومضة حكرا على النصوص الشعرية ،انها صورة حية لروح العصر واسلوبه البرقي . جملة مكثفة وامضة المعنى متشظية الدلالة ، يتداخل التعقيد التاويلي مع بساطة اللغة ، موظفة المفارقة ودهشة النهاية ومفارقة الفكرة ، ودرامة الحدث ،ممتطية التركيز والايحاء ،حتى تكاد تكون قصيدة سردية . هذه هي هوية العصر الوامض ، وماعادت فيها تلك السندبادات القرائية المبحرة لساعات متواصلة لنص سردي)).. يرى القاص عقيل الواجدي (الكتابة أحد أهم دلائل التفوقِ الإبداعي للفكرِ البشري عمّا سواها من مجالات الابداع التي تبقى مقيدة الى ضوابطٍ  تسير بها بتقنيةٍ مؤطرةٍ اِطاراً حسابياً وفق منظومة العقل وحسب ، على النقيض مما تحتاجه الكتابة الى اِطلاق جناحي العقل  في عالمٍ رَحْبٍ من الخيال بتصوراتٍ تضيق عنها الأُطرُ العقلية المحضة ، لذا كان الكاتب - بجميع توصيفاته – على مرِّ الأزمنة بخياله الخصب أداةَ ترجمةٍ للواقع بأساليبٍ من الجمال والحكمة ، وهو الرسولُ الذي يصلُ الأرواح دون عناء)..

لقد برّع القاص هيثم محسن الجاسم بتناول الهم الجمعي ،بتوظيف قدراته السردية بتقديم تلك المجاميع القصصية التي تمثل الواقع العراقي.