صلاح النظام بصلاح المعارضة

نزار حيدر

يمتلئ تاريخ البشرية بالعديد من النهضات والثورات وحركات التغيير، منها ما حقق نجاحا ومنها ما فشل في تحقيق اهدافه، ومنها ما حقق نجاحا استراتيجيا دام قرون، ومنها ما حقق نجاحات وقتية اضمحلت نتائجها وتلاشت آثارها بمرور الوقت، الا ثورة الامام الحسين السبط عليه السلام التي تحولت الى منار والى علم تهتدي بنوره البشرية على الرغم من مرور القرون المتمادية، فلازال السبط الشهيد وعاشوراء وكربلاء مدرسة للتحرر من العبودية ومقارعة الظالم والمساواة بين الناس كافة والعزة والكرامة.

   ولذلك تغنى بالحسين عليه السلام وتعلم من مبادئه كل الناس بغض النظر عن دينهم او مذهبهم او اثنيتهم او حتى اتجاهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، لان الحسين السبط لم يكن لفئة دون اخرى او لدين دون آخر، انه التجسيد الحي للاسلام الذي بعثه الله تعالى للناس كافة.

وان اول اسباب النهضة برأي الامام السبط، هو ان يكون الحكم في البلاد صالحا وسليما، وان من ابرز شروط صلاح النظام السياسي هو وجود المعارضة السياسية التي تؤدي دور الترشيد والرقابة والمحاسبة وتصحيح الاخطاء بشكل دستوري وسليم.

   ان سلطة بلا معارضة، لهي سلطة تنتهي بالبلاد الى الاستبداد والديكتاتورية ان عاجلا ام آجلا، ولذلك سعى الامام امير المؤمنين عليه السلام، لحظة رحيل الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعندما تيقن بان قريش قد ازاحته عن مكانه المناسب والصحيح في السلطة الجديدة، وان الخلافة قد زويت عنه، ولاسباب عديدة، قرر ان يعمل جاهدا من اجل ان يؤدي دور المعارضة السياسية في الدولة الى جانب الحكم الذي كانت له عليه الكثير من المؤاخذات الشرعية والفكرية والسياسية وغير ذلك، عبر الترشيد والرقابة والنصح والتصحيح.

   فكان يفرض نفسه كمعارضة فرضا، ليؤسس لمفهومها بشكل سليم، فكان ياخذ على يد الخليفة اذا اخطا، وكان لا يسكت على ظلم اذا اصاب مواطن، فمثلا، روي انه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فاخذ منه الخليفة الثالث عثمان بن عفان ما حلى به بعض اهله، فاظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكل كلام شديد حتى اغضبوه، فخطب فقال: (لناخذن حاجتنا من هذا الفئ وان رغمت به انوف اقوام) فقال له امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام {اذن، تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه}.

وعندما بايعه الناس حاكما اعلى في الدولة الاسلامية، بذل كل جهده من اجل ان يساهم في التاسيس لمعارضة دستورية من خلال افساح المجال لكل مواطن لان يدلي بدلوه في كل قضية من القضايا العامة التي تخص الناس، وليس المسلمين فقط، فكان يقول ويكرر {فلا تكفوا عن مقالة بحق، او مشورة بعدل} ولذلك، مثلا، نراه يؤسس لدولة المواطن وليس لدولة الدين او المذهب او الاثنية، ولهذا السبب، ربما نلاحظ ان جل خطابات الامام عليه السلام كان يبداها بقوله {ايها الناس} لاشعارهم بان سلطته السياسية هي للناس كافة وليست للمسلمين دون سواهم.

  ومن الامثلة التطبيقية لذلك عندما راى عليه السلام رجلا مسنا يفترش الرصيف على قارعة الطريق، تساءل عن الحالة بقوله {ما هذا؟} ولم يسال عن الشخص، فلم يقل (من هذا؟) وعندما اجابه اصحابه بقولهم (يا امير المؤمنين انه رجل نصراني كبر فلا يقوى على عمل) رد عليهم بالمعنى {استعملتموه عندما كان قويا، فلما ضعف تركتموه وشانه؟) ثم امر صاحب بيت المال، اي وزير المالية او الخزانة، بان يجري له ما يؤمن له حياة كريمة من ماكل وملبس ومسكن.

ومن هذا أيضا، ما رواه ابن ابي الحديد في شرح (نهج البلاغة) اذ يقول، قال علي:

   {ثم جاءني احدهم فقال لي: اني قد خشيت ان يفسد عليك عبد الله بن وهب وزيد بن حصين الطائي، اني سمعتهما يذكرانك باشياء لو سمعتها لم تفارقهما حتى تقتلهما، او توثقهما فلا يزالان بمحبسك ابدا، فقلت له: اني مستشيرك فيهما، فماذا تامرني بهما؟ فقال الرجل: اني آمرك ان تدعو بهما فتضرب رقابهما، فعلمت انه لا ورع له ولا عقل، فقلت له: ما اظن لك ورعا ولا عقلا، لقد كان ينبغي ان تعلم اني لا اقتل من لم يقاتلني ولم يظهر لي عداوته، ولقد كان ينبغي لك، لو اردت قتلهم، ان تقول لي: اتق الله، بم تستحل قتلهم ولم يقتلوا احدا؟}.

   إنه (عليه السلام) رفض ان يكون في ظل حكومته سجناء راي او حتى عقيدة، فهو قد ضمن حرية التعبير وحرية الاعلام لكل المواطنين، بلا تمييز، لازالوا لم يشهروا السلاح بوجه السلطة السياسية المنتخبة، وبذلك يكون قد شرعن للمعارضة السياسية في البلاد، ومنحها كامل الحقوق الدستورية والقانونية.

   ان بدء فساد النظام السياسي، برأي الامام، يتجلى بمن يلي امور الناس، صغيرا كان ام كبيرا، فاذا فسدت هذه الطبقة، فسد النظام السياسي، وبالتالي ضاعت مصالح الناس، والعكس هو الصحيح، فاذا صلحت هذه الطبقة صلحت مصالح الناس، فمثلا، لو لم يكن المسؤول فاسدا لما تجرا المواطن على تعاطي الرشوة، ولو لم يكن الوزير قد زور شهادته او تسنم مسؤوليته لقرابته من الحاكم، لما تجرا المواطن على تزوير شهاداته او التوسل بالوساطات لنيل ما يصبو اليه.

   يقول عليه السلام {ينبغي لمن ولي امر قوم ان يبدا بتقويم نفسه قبل ان يشرع في تقويم رعيته، والا كان بمنزلة من رام استقامة ظل العود قبل ان يستقيم ذلك العود}.