نظرة في الاستشراق الروسي

د. هاشم الموسوي

ظل الاستشراق في كل توجهاته ومناهجه ولغاته مرتهنا بلعبة السلطة أو القوة التي تتخفى من خلال المعرفة، وقد عودنا الاستشراق بأنه حيثما يحضر تحضر معه الهيمنة مع استثناءات بدت أقل حدة في الاستشراقين الألماني والروسي لأسباب عديدة كان أبرزها عدم الارتباط المباشر لهذين اللونين من الاستشراق بالآلة العسكرية الغازية لبلاد العرب المسلمين، كما هو شأن الاستشراق الفرنسي والانجليزي والبرتغالي والأسباني .

وكان عدم الارتباط بجيوش غازية عاملا من عوامل تأخر اهتمام الدراسات الروسية بالفكر العربي وبحضارته الإسلامية إذا ما قيس بالاستشراق الأوربي بأنماطه القومية والجغرافية الأخرى التي تعاطت مع الحضارة الإسلامية لأسباب ودوافع شتى.

 ومن المعروف أن روسيا بسبب أجوائها الباردة لم تعرف الديانات السماوية الثلاث إلا بوقت متأخر مقارنة بالبلدان الاوربية فظلت الديانة الوثنية هي السائدة في مدنها المترامية الأطراف التي استجابت بشكل وبآخر للمبشر المسيحي أو للداعية الإسلامي الذي ظلت علاقته بالروس مرهونة بعلاقة الروس أنفسهم مع الدولة البيزنطية التي تدين بالمسيحية حيث اتخذها القيصر الروسي (إيفان الرهيب) في القرن 15ميلادي دينا رسميا لدولته وشعبه مما جعل أغلب قياصرة الروس قبل الثورة الروسية الكبرى عام 1917م يقفون إلى جانب البيزنطيين ضد المسلمين، وربما كانت هذه الحروب الواقعة على التخوم الروسية عاملا مهما من عوامل تطلع المثقفين والأكاديميين الروس إلى الحضارة الإسلامية وإلى لغة القرآن لمعرفة أسرارهما وفك شفرتهما.

ولعل كتاب المستشرق الروسي دانتسيغ ( رحالة الروس للشرق الأوسط) من أوائل الكتب التي عالجت علاقة الروس من تجار وحجاج ورجال دين وعسكريون شاركوا في معارك في الأمصار الإسلامية النائية، وقد ضم الكتاب نصوصا عديدة لهؤلاء الرحالة تصور معاناتهم في الوصول للبلاد الإسلامية البعيدة وتحكي تصوراتهم وانطباعاتهم عن أهل هذه البلاد وعاداته وتقاليدهم الثقافية المتوارثة.

ويسجل التاريخ عند العام 1722م دخول العاصمة الروسية (موسكو) أول مطبعة بالحروف العربية، ومن خلال هذه المطبعة كتب اول بيان يوجهه القيصر (بطرس الأول) محفزا الناس ضد الهيمنة التركية (الإسلامية) في المناطق المتاخمة لروسيا القيصرية من بلاد القوقاز وآسيا الوسطى، وكأن الاستشراق يأبى إلا أن يكون قرين العداوة والخصومة للإسلام والمسلمين حتى وإن لم يكن منحازا الانحياز كله كالاستشراق الروسي، فيما ترجمت مع دخول هذه المطبعة وبأمر من الأميرة (كاترينا) ابنة أحد القياصرة المولعة بالآداب الشرقية والعربية منها خاصة العديد من الروائع العربية والأشعار الجاهلية والقصص الأدبية المأثورة عن العرب والمسلمين أيام نهضتهم

ومع مجيء العام 1823م تدشن وزارة الخارجية في روسيا القيصرية فتح أول قسم خاص لتدريس العربية وآدابها وقرآنها وعلومه مستحصلة آلاف المخطوطات العربية التي تدعم هذا المشروع الذي تحول مع العام 1855م إلى كلية كبيرة في بطرسبورغ لتعليم اللغات الشرقية ودراسة آدابها ومعارفها ليتطور هذا الاهتمام الثقافي متحولا إلى نشاط دبلوماسي يرافق حركة الدبلوماسيين الروس العاملون في البلدان العربية والإسلامية.

وحينما قامت الثورة الروسية الكبرى عام 1917م أحدثت معها تحولات كبرى في رؤية الروس للعالم وللآخرين من حولهم ، ودخل معها الاستشراق الروسي مرحلة جديدة ارتبط فيها مع المصالح الجديدة لقادة الثورة وزعمائها الذين غيروا تسمية البلاد الروسية الشاسعة إلى (الاتحاد السوفيتي) ثم اعتنقوا فلسفة اشتراكية ونظرة مادية صرفة لتفسير الكون ومظاهره من حولهم، حيث تأسست بعد عقد من قيام الثورة جمعية (المستشرقين الروس) التي أصدرت عام 1928م مجلة الشرق الجديد التي أدارها أشهر مستشرق روسي على الإطلاق هو  (كراتشكوفسكي ت 1951م) المعروف بتحقيقاته الرصينة للتراث العربي الزاخر وبتعمقه في دراسة روائع الأدب العربي الكلاسيكي، وقد ترك هذا المستشرق إرثا علميا كبيرا حيث تجاوزت كتاباته العلمية ال600 كتاب وبحث مطبوع.

ولما كانت عقيدة هؤلاء الزعماء الجدد هي عقيدة مادية لا تسمح بفتح المجال للروحانيات وللأديان ولا تشجع على الخوض في البحوث الدينية أو الدراسات الإسلامية المعمقة، فقد حتمت هذه العقيدة عليهم أن يغلقوا أبواب البلاد ضد أي تبشير ديني بغض النظر عن كونه مسيحيا أو إسلاميا، وهو الأمر الذي استدعى تضييق الخناق على ملايين المسلمين في آسيا الوسطى وفي بلاد القوقاز بحجة قطع جذورهم بماضيهم الإسلامي المتخلف كما كان يطلق عليه بعضهم؛ مما نجم عن ذلك ضعف واضح في الدرس الاستشراقي الروسي المتصدي للعلوم الدينية والمعارف المتعلقة بالعقيدة الإسلامية وأصولها الفقهية، واقتصار هذا الدرس على البعد اللغوي وحده عند تعرضه للقرآن الكريم واستبعاد الأبعاد الأخرى الكامنة خلف البعد اللغوي.

 ولكن هؤلاء الزعماء الجدد وجدوا أنفسهم مضطرين بالقدر نفسه على ضرورة الانفتاح على البلدان العربية ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي المهم وصاحبة الامتيازات بالموارد الطبيعية الواعدة، الأمر الذي شجعهم على تعليم العربية وآدابها في المعاهد والكليات التي تأسست بعد قيام الثورة والدفع بمئات المستشرقين الروس إلى الواجهة الدبلوماسية للتبشير بمبادئ الثورة الروسية من خلال المطبوعات التي طبعت بموسكو وبطرسبورغ وكييف ولينينغراد ودفعت ترويجا للقيم السوفيتية الجديدة بين الأوساط الثقافية الشعبية في البلاد العربية التي كانت تعاني من نير الاحتلال الاستعماري متطلعة إلى يوم التحرير والخلاص.

غير أن هذه الكتب لم تلق صدى واسعا عند القارئ العربي بالرغم من جودة طباعتها وصغر حجمها وأناقتها لأنها كانت في الغالب عبارة عن روايات وقصص خيالية روسية تمجد الثورة الروسية وتشجع على تكرار تجربتها في بلدان أخرى في شكل من أشكال الترويج الدعائي الذي لا يأخذ بالحسبان طبيعة البلاد العربية والإسلامية المربوطة بذاكرة عمرها خمسة عشر قرنا، الأمر الذي يدعوا إلى القول أن الاستشراق الروسي ظل نشاطا فكريا تغذيه عوامل غير ثابتة وتحثه مصالح متغيرة تفتقر إلى الاستراتيجيا الواضحة الملامح بخلاف ما كان عليه الاستشراق الأوربي الغربي مثلا.