الطب النفسي.. بين الوصمة الاجتماعية والحاجة للمعالجة

غانيا درغام

الطب النفسي هو أحد اختصاصات علم الطب البشري العام، وإن سبب أغلب الأمراض الجسدية هو المرض النفسي والعكس صحيح، بالتالي يقوم الطب النفسي على دراسة ومعالجة "الدماغ، الجهاز العصبي، تأثير الجهاز العصبي على التصرفات، المشاعر النفسية، والحالة النفسية للأفراد".

يصنّف الطب النفسي من العلوم التي تعتمد على تشخيص الحالة النفسية للمريض، ذلك لعدم القدرة على إجراء فحوصات طبية تبين إذا ما كان المريض يعاني من مرض الاكتئاب مثلاً، أو من الوسواس القهري، وغيرها من الأمراض النفسية الشائعة، لذا يعتمد الطبيب النفسي اعتماداً كلياً على التاريخ العائلي للمريض، ويبحث إن كانت هناك حالات مشابهة له، كما يشخص حالته بما يظهره المريض من سلوكيات، وأفعال في الوسط الذي يعيش فيه، سواء أكان في أسرته، أو جامعته، أو مع المجتمع ككل.

ولأن الطبيعة الإنسانية للبشر تميل إلى السلام ونبذ استنزاف الدماء بالتالي جاءت الحروب محملة بثقل الجرائم والإرهاب على جميع الأصعدة، مما انعكس على المواطنين حالات نفسية تطورت بفعل المسؤوليات المتراكمة والمتسارعة لتصبح أمراض نفسية فرضت بعوامل الحروب والإرهاب وأيضاً الاحتلالات وجرائم سجونها.

أسباب واختلافات

كما يصنّف المرض النفسي حاله حال الأمراض العضوية الأخرى له، حيث يحصل لأسباب: "وراثية، عضوية، اجتماعية، وأسباب بيئية"، وهو يختلف من وقت إلى آخر ويتفاوت في شدته من مرحلة عمرية إلى مرحلة عمرية أخرى بمعنى أن أمراض طب نفس الشيخوخة التي تُصيب كبار السن كالزهايمر، والخرف تختلف عن الأمراض التي تُصيب فئة الشباب، كأمراض الفصام، أو الاكتئاب.

 يحدث المرض النفسي بسبب وجود اختلال في النواقل العصبية في الجهاز العصبي، أو وجود ضمور في خلايا المخ، بسبب إصابة الشخص بمرض عضوي معين، أو تعرضه للإشعاعات الضارة، أو إصابته بإحدى الحوادث التي أثرت بشكل مباشر على وظائف الدماغ، أيضاً قد يلعب الحزن دوراً في حدوث الأمراض النفسية، لكنه لا يعد سبباً رئيسياً لحدوثها إلا عند الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي لاستقبال هذا المرض، وما يتبع عنه من أمراض عضوية، كمرض: "السكري، الضغط، الإصابة بالقرحات المعدية، أو الجلطات القلبية" وغير ذلك، بالتالي تكون أهمية علاجه مضاعفة عن أهمية العلاجات الأخرى وتتطلب سرعة واحتواء من الدائرة الاجتماعية القريبة من المريض والمجتمع ككل.

وصمة معيبة أم حاجة انسانية

للأسف إن بعض الأسر تجد مريضها النفسي معيب لها في المجتمع وتأبى مشاركة عيادة الطبيب النفسي للاستطابة، فتلجأ إلى الدجالين وما يسمى السحرة لتقويم حالة مريضهم النفسية إلا إن الوضع يزداد سوءً من الخجل به أولا، ومن الوضع غير الطبيعي الذي يفرضه عليه الدجال من جهة أخرى الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم حالته النفسية.

وذكرت مجموعة كتب هندية يرجع تاريخها إلى 1400 عام قبل الميلاد، أن الأمراض العقلية تنتج عن نقص عناصر معينة بالجسم، كما ذكرت وثائق صينية يرجع تاريخها إلى عام 1000 قبل الميلاد، حالات خرف، وجنون، وصرع، أما النقلة النوعية في تاريخ الطب النفسي، فقد جاءت على يد (أبقراط) عام 460 قبل الميلاد، فبعد أن كانت الأمراض تُعزى إلى القوى الخارقة، والشيطانية، فسر أبقراط الاكتئاب والجنون، والهستريا بصورة أكثر موضوعية، وأوضح أن المرض النفسي ما هو إلا خلل وتغيرات جسدية، ولا يحدث بتأثير قوى خارجية، بالتالي إن اللجوء إلى الشعوذة في حال علاج الأمراض النفسية هو تخلف يعود تاريخه إلى المئات والآلاف قبل الميلاد، فكم تفاقم هذا التخلف في عصرنا الحالي عندما يعترض على دخول العيادات الطبية النفسية؟.

للصحة النفسية مقومات

أما مقومات الصحة النفسية فهي جزأين:" صحة جسدية وصحةٍ نفسية"، حيث تعرف الصحة الجسدية بأنها هي التي تختص بسلامة أعضاء الجسم والتأكد من قيامها بوظائفها على أكمل وجه، بينما اختلفت التعريفات للصحة النفسية نظراً لتغير: "القيم، المفاهيم والسلوكيات التي تتدخل في وضع التعريف"، ويمكن تلخيص التعريف بتحقيق التوازن النفسي الذي يشعر به الشخص، بالتالي التعايش مع المجتمع بسكينة وطمأنينة، وتكمل الصحة النفسية والصحة الجسدية بعضهما البعض للمحافظة على سلامة الجسم بشكل كامل، حيث إن الصحة الجسدية تؤثر في نفسية الفرد، كما أن الأمراض النفسية تسبب الأمراض الجسدية.

وشهد الاهتمام بالصحة النفسية في العصور الوسطى أوجه، فقد أدرك العلماء المسلمون في ذلك الوقت أهمية الصحة النفسية، وانتشرت دور الرعاية النفسية في دمشق وبغداد والقاهرة، بينما كانت الدول الأوروبية تغط في سبات عميق من الجهل فكانوا يعالجون الأمراض النفسية بحرق المصابين وضربهم وتعذيبهم، ظناً منهم أن الأمراض النفسية تعود إلى مس الشياطين نتيجة العصيان والتمرد، واستمر الوضع كذلك إلى أن جاء فيليب بينل الذي ألف كتاباً حول طريقة التعامل مع المرضى النفسيين.

دَور الإيمان

كما جاء المنهج الإسلامي في تقويم الصحة النفسية بتعميق مفهوم الإيمان، فالإيمان يساعد العبد على تصور الأمور الإيجابية في حياته مما يحميه من الوساوس والشكوك في حياته وحول مصيره، إضافة إلى تأدية العبادات التي تعلِّم النفس: "الصبر على الشدائد، التحمل، قوة الإرادة، العزيمة، والإيمان بالوجود تحت رحمة ورعاية الله تعالى"، كما تحفز على المداومة بذكر الله تعالى وقراءة القرآن الكريم، بالتالي إن الجانب الإيماني والروحي مرتبط بشكل مباشر في معايير العلاج المندرجة بسياق الطب النفسي، فالطهارة والاستقامة المرتبطتان بالقرب من الله تساعد الناس للحصول على الطمأنينة وراحة البال التي تصب في العلاج النفسي، أيضاً التواجد في دور العبادة والتقرب إلى الخالق العلي له جانب روحي، يساعد الانسان على التفكّر ويدفعه إلى نقاء النفس والروح، وبالتالي يبعد كثير من المشاكل الاجتماعية والنفسية عنه، فتنهض به من الاضطرابات النفسية إلى السكينة التي تعتبر من أسمى مصاديق الصحة النفسية وأعظم العلاجات الممكن حدوثها.