!الاستشراق والقراءات القرآنية.. الأماني المضللة

تعد القراءات القرآنية من أقدم العلوم المصاحبة لنزول القرآن الكريم، وهي وثيقة الصلة بعلم النحو والصرف والتفسير وحتى التاريخ، ولذلك فالعناية بها متأتية من العناية بالقرآن الكريم والاهتمام به، والحرص على معرفة اشتراطاتها ومواضعاتها جزء من الحرص على القرآن الكريم نفسه، لكون العلم المعني بالقراءات يهدف في أول ما يهدف إليه صيانة القرآن الكريم من التحريف والتغيير.

وينحصر مفهوم القراءات القرآنية في القراءة التي رواها جَمْعٌ موثوق عن جَمْع موثوق وبما يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويشترط في هذه القراءة أمور منها موافقتها للرسم العثماني، وملائمتها للعربية ولو بوجه من وجوه اللغة السليمة ويدخل في هذا النوع قراءات الأئمة السبعة المتواترة والمعروفة في قراءة القرآن الكريم وترتيله على وجه مقبول.

وللمستشرقين دورا كبير في بلبلة المفاهيم والتصورات المتعلقة بالقراءات القرآنية، ومن هؤلاء المستشرقين مثلا (جولدزيهر) الهولندي الذي يحصر سبب الاختلافات الحاصلة في بعض القراءات القرآنية بخصوصية الخط العربي  الخالي من الاعجام والتنقيط والعلامات أيام التدوين الأول للنص القرآني في الربع الأول من لقرن الأول الهجري.

في كتابه المشهور( مذاهب التفسير الاسلامي ) الذي نقله الى العربية  علمان بارزان هما (علي حسن عبد القادر) و( عبد الحليم النجار) يورد هذا المستشرق المعروف ما نصه: ( لا يوجد كتاب تشريع اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديا على انه نص منزل موحى به يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات كما نجد في نص القرآن !!!!!).

فهل يعقل هذا مثل هذا الكلام من أكاديمي متخصص بالحضارة الاسلامية كـ(جولدزيهر) عن نص سماوي ثابت حفظته القلوب قبل الأذهان كابرا عن كابر، وهل يجوز نعت هذا الكتاب الذي أقر المستشرق المذكور بسماويته وقدسيته لمجرد وجود اختلافات بسيطة في قراءات البعض عن البعض الآخر وهي قراءات مقبولة ما دامت لا تشوه النص ولا تطعن في قدسيته وصوابه وانتمائه الى الله؟

وهل أن من قرأ قوله تعالى: ( اهدنا الصراط) بالصاد مرة و(السراط) بالسين مرة وهي قراءة لا تعود إلى اضطراب في الاصل القرآني بقدر ما تعود إلى اختلاف لغات القارئين ولهجاتهم وطريقة تصويتهم للحروف، هل معنى ذلك يؤول إلى وجود اضطراب في النص الأصلي؟

وهل أن قراءة قوله تعالى: ( ويأمرون الناس بالبخل) بضم باء البخل مرة وبفتحها مرة أخرى يدعو جولدزيهر إلى وصف كتاب المسلمين ودستورهم الأول إلى وصف القرآن بعدم الثبات؟ وأين عدم الثبات في النص القرآني من عدم الثبات في النصوص المقدسة الأخرى كالتوراة والانجيل اللذين اطلع عليهما هذا المستشرق وأدرك حجم الاختلاف والاضطراب، قياسا بالقرآن هذا سلمنا معه بوجود مثل هذا الأمر الذي يدعيه!!!

أو أن يقرأ قوله تعالى : ( أومن ينشأ في الحلية فهو في الخصام غير مبين) بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين (يُنَشّأ) أو بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين (يَنْشَأ) دون أن يخل ذلك بمضمون النص ومراده ومحتواه العام، وهذا النوع من القراءات والاختلافات جار على سنة العرب في صرف عنايتها للمعاني وفي نظرها للألفاظ على أنها وسائل، حيث لا يوجد بأس من إيراد اللفظ على وجهين أو أكثر ما دام المعنى العام الذي يقصد بالخطاب هو معنى مستقيم لا تشوبه شائبة .

وقد أقام جولدزيهر حجته في وجود القراءات الى مجموعة من الحجج والبراهين المتهافتة متمثلة بما يلي: إن وجود القراءات المتعددة في النص الواحد عائد إلى هوى القرّاء ورغباتهم الخاصة التي ليس من الضروري أن تستند إلى أصل تاريخي أقرّه الرسول الأكرم (ص)، وكم ان الاختلاف بين القراءات من الممكن أن يعود –بحسبه- الى عدم وجود التنقيط في زمن كتابة النص القرآني في الربع الأول من القرن الأول الهجري، فضلا عن عدم اكتشاف الحركات الإعرابية في أواخر المفردات والصرفية داخل بنية الكلمة الواحدة، وهي حجج واهية أوهى من أن يرد عليها راد لأن أغلب صحابة الرسول الأكرم وأهل بيته الطيبين كانوا يحفظون القرآن كما أنزل على النبي المصطفى وان الاختلاف حتى وان حدث فهو بسبب اختلاف اللهجات والألسن وهو اختلاف لا يودي بالأصل ولا يضره ، وقد أبقاه الرسول الأكرم تسهيلا للأمة وتسهيلا عليها في طريقة التصويت ، إذ ليس من المعقول أن يتحدث العرب ومن دخل الاسلام معهم بلهجة واحدة ينطقون حروفها ويصدرون أصوات هذه الحروف كما تصدرها قبيلة قريش التي ينتمي إليها حبيب الله محمد (صلى الله عليه وآله) وكما بينا.

وقد فات هذا المستشرق المرموق بأن الروايات أو القراءات التي يسميها اضطراب هي قراءات ثبتت بطريق التواتر الذي لا شك في انتهاء صلته المباشرة بالرسول الأكرم الذي أقر ذلك ودونه من بعده علماء الأمة بالمشافهة كابرا عن كابر ثم وثقوه بأسانيدهم العلمية التي لا يرقى اليها الشك ولا تصل اليها الشبهات!!!

كما فات (جولدزيهر) أن اختلاف القراءات إنما هو مجرد اختلاف يعود أسبابه إلى التنوع والتغاير وليس للاختلاف المتعارض المضطرب، لأن التعارض والاضطراب لا يمكن أن يكون حتى في كلام العقلاء من البشر! فما بالك أن يكون في كلام رب البشر، ولكنها مجرد أماني تمناها المستشرقون كي يطعنوا في هذا الكلام المحكم والمسيطر على الألباب والذي وصفه رب العالمين بأنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..

د. هاشم الموسوي