تطوير الفكر وتوارث الأفكار.. مفارقة كبيرة

غانيا درغام

تطوير الفكر يعتبر من أهم المهارات الفردية التي تبلور شخصية الفرد وتصقل صفاته الشخصية، الامر الذي  ينعكس على سلوكه بتوجهات أكثر منطقية وأعظم فائدة تعود إليه ثم إلى بيئته الاجتماعية القريبة، كي تنعكس أخيرا على المجتمع بشكل عام، هنا نؤكد أن دور الفرد الفكري لا يقل شأنا عن دوره الاجتماعي، التربوي، الثقافي أو الاقتصادي في بناء المجتمع الصحيح ككل.

وفي خضم التطورات المتعاقبة بأوقات متقاربة يجب أن يشمل هذا التطور الإنسان أيضاً، فعندما تتسارع التكنولوجيا في بث التطورات المتتالية بالتالي يجب أن يتطور فكر الفرد، كي يستطيع مواكبة تطورات تسعى لاستخدامه وتكريس وقته لها بدلاً من استخدامها والاستفادة منها لمصلحته.

من جانب آخر إن معظم المجتمعات الإنسانية عانت من هول الحروب ، والحروب مع الممارسات الارهابية خصوصاً، كما تعرضت دول لاحتلالات متعاقبة كانت تسعى السياسات المحتلة لها إلى تعبيد الشعوب فيها تحت سوط التخلف والرجعية الفكرية، الإنسانية، الثقافية والإجتماعية، كي تثقل على كاهله عملية المقاومة والتعرف حتى حقوقه بالتحرر ثم النهوض من جديد، كأن نتحدث مثلا عن الاحتلال العثماني وما بثه من أفكار نجم عنها عادات، تقاليد وممارسات اجتماعية غير صحيحة.

هنا لابد من بث منهجية التطورات المتعاقبة على صعيد العالم ككل حتى تشمل الفرد بفكره الخاص، أي خاصيته بالحصول على علمه وعمله واحترام معتقده، كي ينبثق من ذلك كله قيم اجتماعية متطورة تحافظ على ما ذُكر، وتقوم العائلة الخاصة بالفرد في جميع مناحي الحياة لينتج آخراً نهضة اجتماعية،علمية وثقافية مفادها الوصول إلى أسمى الحالات الانسانية ضمن إطار الدولة وتطورها".

يقول السيد محمد أسعد: "نحن في عصر الحروب وأهوالها الإرهابية مع الشعوذات السياسية التي تسعى إلى تحجيم الشعوب وإنهاك قواها، بالتالي يجب على كل فرد أن يقاوم ويبرع في الحفاظ على ذاته وعائلته وبلده، سواء على صعيد الدفاع بالسلاح، أو الدفاع بالعلم، أو بالعمل، وهذا بحد ذاته يعتبر تطوراً فكرياً يكسر أحلام الاستعمار والتخلف الذي يسعى إليه".

وعن ماهية تطوير الفكر فإن أبرز ما يمثله هو التفكير الإيجابي الواعي والناضج، لذلك إن الأشخاص الإيجابيين دوماً ما يمتلكون درجة عالية من الوعي والإدراك، فالوعي عند الإنسان يبدأ من الأفكار التي يدخلها إلى عقله، وبسبب الأفكار الجيدة التي يعمل عقل الشخص على تحليلها وبرمجتها بالتالي الوعي سيتكون عنده بصورة طبيعية.

ويقوم تطور الفكر على التقبّل، ويشمل هذا الكثير من الأشياء الإيجابية، فالأشخاص الذين يفكرون بإيجابية دوماً ما يكونوا قادرين على التأقلم مع أي شيء، وهذا ما يجعلهم قادرين على تقبل هفواتهم وأخطائهم والتعلم منها بشكل جيد، كما يؤدي التقبل إلى صقل منظور الإنسان تجاه الأشياء من حوله، عن طريق تكوين تصورات ومفاهيم جديدة عن الحياة والعلاقات الإجتماعية المختلفة، وأهم ما يمكن تقبله إجتماعيا هو تقبل الآخر بجميع صفاته، من ضعف أو مرض أو ظروف اجتماعية قاسية، سيما أن امتداد الفكر بين شخص وآخر يعتبر تطوراً بحد ذاته.

تقول السيدة رغد غريب: "نحن بطبيعتنا البشرية والإنسانية خلايا متجددة، فلا يمكن أن تكون أجسادنا في تطور متجدد وأفكارنا لازالت متحجرة لا تستطيع النهوض بنا وبمن حولنا، تطور الفكر حاجة ملحّة لكل شخص لديه الوعي لنفسه ومحيطه الاجتماعي بجميع تشعباته من أهله وأقاربه وأصدقائه وكل من يصادفه في حياته، وإن أسمى ما ينهض بتطوير الفكر هو تقبل الواقع وتقبل الآخر، بكل ما يملكه من ضعف حتى يقوى، ومن مرض حتى يشفى، ومن تخلف حتى يتعلم، هكذا نصنع حياة مجردة من التخلف لأنفسنا".

كما يعتبر الامتنان أحد علامات تطور الفكر، ذلك عندما يشعر الفرد بالامتنان تجاه كل النعم الموجودة في حياته مهما صغرت أو قلت أهميتها عند الناس، فالامتنان يساعد الإنسان على رؤية الجانب المشرق من الحياة والإعراض عن الجوانب المظلمة منها، ويقوم بشكل أساسي على تقدير اللحظات الصغيرة والشعور بالسعادة، بسبب الأشياء البسيطة التي تعمل طاقته الفكرية على تطويرها وجعلها أكثر فائدة وأهمية.

المختص في علم الاجتماع السيد محمد نصور، يقول: "عند البحث عن تطوير الفكر وتوارث الأفكار فان علم الاجتماع يهتم بالحفاظ على الفكر الايجابي وتعزيزه ومحاربة الفكر السلبي وإضعافه، لذلك فان للبيئة الاجتماعية تأثير كبير على الفكر سواء الداخلية التي تمثل الأسرة بالدرجة الاولى، او الخارجية المتمثلة في المجتمع الاساس الذي يبنى عليه سلوكيات الانسان وتتبلور في اتجاهاته وأفكاره الشخصية، وللحفاظ على هذه الاتجاهات والافكار تفرض البيئة الاجتماعية على الفرد اتباع أساليب معينة من أجل الحفاظ عليها، هنا فانه يتمثل السلوكيات التي تعتمدها بيئته الاجتماعية لتصبح جزءا اساسيا من شخصيته.

هذا التمثيل الذي يبدو واضحاً في تبنيه لمفاهيم وتصورات وأفكار صحيحة تسهم في الحفاظ على سلامة صحته الفكرية والجسدية والنفسية، هذا ما يجعل البيئة الاجتماعية تلعب دورا مهما في بلورة مفهوم الوعي الفكري لدى الأفراد وتشكيل سلوكيات معيارية تتبنى منهجا ورؤية ثابتة للتعامل مع المعوقات التي تقف امام ممارسة الفرد لحياته بشكل طبيعي.

كما إن تاريخ الفكر الانساني يشكل ذاكرة هائلة من التجارب الانسانية والكونية وهو بنية كلية قائمة على الحصيلة النفسية والمعرفية لتجارب الانسان ومن هذا المنطلق تأتي أهمية ضرورة التطور الفكري لتلبية حاجات الانسان ورغباته بالإضافة الى ظهور الفكر المبدع  من هنا يحتاج الانسان الى تغيير اسلوب تفكيره ونظرياته العلمية والأدبية من اجل فهم العالم وتطويره بهدف التغلب على معوقات الطبيعة وفهمها وتطويعها لصالحه.

ويختلف نمط التفكير من انسان لآخر تبعاً لعدة عوامل حيث تلعب البيئة الاجتماعية وفلسفة التربية في المجتمع دوراً كبيراً في نشأة الفكر وتطوره وهنا لابد لنا من الاشارة الى العقبات التي تعيق تطور الفكر ومن ضمنها الموروث الثقافي فكلما كان الميراث الثقافي في المجتمع محدود ودون هوية كلما ساهم ذلك في محدودية الفكر وتقويضه".

كما يعتبر الانسان حجر الأساس في الإيمان الجديد بالإسلام الذي اعتبر أن الإنسان هو خليفة الله على الأرض بقوله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة" مذكور في سورة البقرة "30"، وفضل الله الإنسان على جميع المخلوقات بقوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثر مما خلقنا تفضيلا" جاء في سورة الاسراء "70"، وهذه الكرامة هي حماية إلهية للإنسان تنبثق باحترام عقله وفكره وحريته، بالتالي يأتي ذلك تحفيزاً لعقل المؤمن أن يملك تفكيراً متطوراً ينهض بكرامة المؤمن التي ذكرها الله في كتابه المقدس القرآن الكريم.

والجدير ذكره أن الفكر الإسلامي عموماً يحض على تطوير الفكر الفردي خصوصاً، هذا ما يؤكده قداسة القرآن الكريم أنه لكل زمان، بالتالي هو دائرة الفكر المتطور الذي يسعى إلى تشجيع الفرد على تطوير ذاته من خلال أفكاره، سيما ما ذكر فيه أن العمل عبادة والعمل بحد ذاته بجميع مناحيه وبكل ظروفه وأزمنته هو تطوير للفكر ليكون محض الظروف المتتالية والمتطورة.