الصداقة والصديق في الثقافة الاسلامية

بقلم: جلال عبد الحسن

في ظل أجواء العنف ومناظر الدم المروعة التي تصدم الجميع في الشارع والتلفاز وأماكن اللهو والفضاءات العامة هل يمكن الحديث عن شيء اسمه الصداقة! وفي مجتمعات يسود فيه منطق المصالح والمنفعة وفي أحسن الأحوال منطق الأخلاقيات الرخوة هل يمكن أن يوجد الصديق الوفي أم أن وجوده بات أندر من وجود طائر العنقاء؟؟؟

يحدد علماء الاجتماع مفهوما للصداقة يقوم على مجموعة من الأسس، منها: أن طبيعة العلاقة مع الغير هي أساس الوجود البشري، حيث لا وجود للإنسان بلا وجود لهذه العلاقة مع الأغيار المختلفين، ولأن هذه العلاقة تنتمي إلى ما يمكن تسميته بالمعيش المجرّب ، أي أن الصداقة تنتمي إلى ما يعاش لا إلى ما يقال عنها أو يقاس بها من علاقات؛ فإن الحديث عنها على المستوى النظري هو حديث صعب ومحفوف بالمخاطر.

أما من الجنبة الفلسفية فإن الفلاسفة والمفكرين قد حددوا مفهوما لهذه العلاقة مع الغير انطلاقا من أصل العلاقات بين البشر هو الاختلاف لا الاتفاق، إذ لو كان الناس متفقين فيما بينهم لما اخترعوا اللغة كوسيلة لإيصال الأفكار المستعصية على الفهم والقبول ، فالصديق من صادقك لا من صدّقك، والصداقة بهذا المفهوم ستستحيل اتفاقا ذاتيا بين ذوات مختلفة على اختلاف موضوعي!

إن القبول بالاختلاف بين الطرفين –كما يتضح- هو شرط الصداقة الحقة عند المفكرين، فلا معنى لصداقة تقوم على الاتفاق المطلق بين طرفين متفقين تماما، ويمكن تخريج المقولة المشهورة: (شبيه الشيء منجذب إليه) بأن هذا التجاذب يسببه الإقرار المسبق للطرفين كلاهما بقبول الاختلاف واحترامه لأنه أساس قويم لكل علاقة بشرية متحضرة، ويمكن تشبيه هذا التجاذب بالتجاذب الفيزياوي المغناطيسي الحاصل بين الأقطاب المختلفة.

وقد عرفت الشعوب الفطرية القديمة والمتحضرة على حذّ سواء معاني عميقة جدا لمفهوم الصداقة ولقيمة الصديق وعمق هذه القيمة التي لا يكشف عن قيمتها إلا غياب الصديق ورحيله، ولعل سؤال مهم يطرح نفسه هنا، هو : ما أسباب صعوبة تفسيرنا لشدة تألق الصداقة كعلاقة ضرورية أثناء غياب أحد أطرفها؟ وكلنا يتذكر موت شخص مؤثر في حياتنا الشخصية، أو على مستوى المجتمع وسرعة انثيال مشاعر أصدقائه وانهيال أقلامهم عليه بالكتابة بعد رحيله وتجديد هذه الذكرى في كلّ عام!

وربما كانت أسطورة جلجامش ورحلته الشاقة نحو الخلود الأبدي الموهوم هي أول رحلة اكتشافية ومعرفية تبدأ حدادا وحزنا على صديق راحل، فجلجامش ملك أوروك العظيم والمنتمي إلى المدنية سيلتقي كما تخبرنا الملحمة السومرية بأنكيدو الرجل البدائي المنتمي للطبيعة الحرة (الغابة) ثم يتصارعان بينهما فيكتشف كل منهما أنه يمتلك نفس القوة التي يمتلكها الآخر، وإن تصارعهما ما هو إلا مضيعة للوقت، فيقرران –على أثر ذلك- أن يصبحا صديقين حبيبين، وفي غفلة من جلجامش ذهب أنكيدو لمصارعة ثور وحشي اقترب من مكانهما، لكن هذا الثور يجرح أنكيدو جرحا بليغا يموت بسبب عمقه وضراوته، فيحزن جلجامش حزنا شديدا على صاحبه، فيقرر أن يدفع هذا الأمر البغيض الذي يفرق الأحبة (الموت) بالبحث عن عشبة الحياة التي تمنح من يصل إليها إكسير الوجود الأبدي.... ومغزى هذه القصة الملحمية يؤكد انتباه السومريين –قديما- إلى مسألة الصداقة وعلاقتها بالموت ثم بالبحث عن الخلود.

أما ثقافتنا العربية الإسلامية فقد أولت اهتماما كبيرا للصداقة وللصديق، حيث أنتجت هذه الثقافة تراثا زاحرا في الآداب المتعلقة بمفهوم الصداقة وقيمها كآداب المجالسة والمنادمة والحديث، وهي التي انتجت فرقة فلسفية تحمل من لفظة (الخلان= الصداقة) اسما لها في القرن الثالث الهجري، وهي جمعية (إخوان الصفا وخلان الوفا) الذين عاهدوا أنفسهم على أن يوفقوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية المعروفة ويقربوا بين الناس في ذلك العهد فكتبوا في ذلك خمسين مقالة معروفة.

والصداقة علاقة مقدسة في الإسلام الذي شجع افراده على إقامة علاقة متوازنة وعلى ألاّ يكونوا انعزاليين لا يألفون ويؤلفون، وقد سمّى رسول الله الأكرم هذه العلاقة الصافية (أخوة في الله) وعدها نعمة أحسن الله بها على بعض من عباده دون بعض، يقول الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله): (ما أفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله).

أما الإمام الصادق (عليه السلام وهو ربيب النبوة والإمامة) فقد عدّ الأخوة الخالصة في الله ضربا من ضروب الحظ العظيم حيث يقول: (ثلاثة أشياء في كل زمان عزيزة وهي الإخاء في الله والزوجة الصالحة الأليفة تعينه في دين الله عز وجل والولد الرشيد ومن وجد الثلاثة فقد أصاب خير الدارين والحظ الأوفر من الدنيا والآخرة) .

وفي الموروث الإسلامي صنفت العشرات من الكتب التي تفصّل مفهوم الصداقة ومعناها وقيمة الصديق ودوره في سعادة أو شقاء صديقه، وكان كتاب (الصداقة والصديق) للتوحيدي، وهو عبارة عن رسالة أدبية تشتمل على الكثير من أخبار الأدب المتعلقة بموضوع الصداقة والأصدقاء من أهم هذه الكتب وأغناها، إذ يجمع في هذا الكتاب آراء الحكاء وأقولهم من عصور مختلف عن آداب الصداقة ومحاسنها ومساوئها.

في أحد صفحات هذا الكتاب يقف مثلا، عند الفرق بين الصداقة والعلاقة فيقول: الصداقة أذهب في مسالك العقل وأدخلُ في باب المروءة وأبعد من نوازي الشهوة وأنزهُ عن آثار الطبيعة وأشبه بذوي الشيب والكهولة وأرمى إلى حدود الرشاد وآخذُ بأهداب السداد وأبعد عن عوارض الغرارة والحداثة...

أما العلاقة فهي من قبيل الهوى والشغف والصبابة والكلف، وهذه كلها أمراض بشركة النفس الضعيفة، ليس فيها للعقل ظل ولا سلطان، ولهذا تُسرع هذه الأمراض إلى الشباب من الذكران والإناث وتنال منهم وتملكهم، وتحول بينهم وبين أنوار العقول وآداء النفوس وفضائل الأخلاق وفوائد التجارب... ولهذا يحتاجون إلى الزواجر والمواعظ ليفيئوا إلى ما فقدوه من اعتدال المزاج والطريق السوي.

ولا يفوت صاحب الكتاب أن يستنير بآراء الحكماء وذوو العقول من خارج داثرة الثقافة الإسلامية بخصوص آداب الصحبة وقيمتها عند الأمم، فينقل لنا عن حكيم اليونان (ديوجانوس) حينما سأله أحدهم : ألك صديق، فقال: نعم ولكني قليل الطاعة له، فقيل له: لعلّه غير ناصح فلذلك أنت على ذاك، فقال:  لا، بل هو غاية في النصح، نهاية في الشفقة، فقيل له: فلم أنت على دأبك هذا المذموم مع إقرارك بفضل صديقك؟ فيرد عليهم الحكيم: لأن جهلي طباع وعلمي مكسوب، والطباع سابق، والمكسوب تابع، قيل: فدلنا على صديقك هذا الناصح المشفق حتى نخطب إليه صداقته ونجتهد في الطاعة له والقبول منه، فقال: صديقي هو العقل، وهو صديقكم الذي لو أطعتموه لسعدتم ورشدتم، ونلتم مناكم في أولاكم وأخراكم، فأما الصديق الذي هو إنسان مثلك فقلما تجده، فإن وجدته لم يفي لك بما يفي به العقل، ولم يبلغ ما يبلغ بك العقل، وربما أتعبك وأشقاك، فاكبحوا أعنتكم عن الصديق الذي يكون من لحم ودم وعظم، فإنه يغضب فيفرط، ويرضى فيسرف، ويسيء فيحتج.