الشورى من موجبات الحكم

حسن الهاشمي

نظرة فاحصة لما يجري لنا من مصائب وكوارث وانفجارات أسبابها  صراع محموم بين إرادتين متضادتين في الاتجاه والسلوك والنتائج، إرادة حرة يتطلع الشعب إزاءها لتحقيق معطيات الكرامة والتطور والإنعتاق وإرادة قمعية يتطلع إزاءها الحاكم المستبد لتكريس موجبات التحكم بمصير العباد والبلاد ولو بالبطش والقوة...
قبل كل شيء لابد من اجتثاث جذور الاستبداد من أنفسنا، وليس للحاكم حق الديكتاتورية مطلقاً، وكل حاكم يستبد فانه يعزل عن منصبه تلقائياً في نظر الأنظمة الديمقراطية، لأن العدالة من شرط الحاكم، والاستبداد الذي معناه التصرف خارج النطاق الديمقراطي أو خارج نطاق رضا الأمة، أي تصرف الحاكم في شؤونها الخاصة، هذا ظلم مسقط له عن العدالة، فالظالم الذي من طبيعته الظلم يتوغل في جرمه وجريرته من غير فرق بين المظلومين، سواء أكانوا من شعبه أم من شعوب أخرى، والإيغال في الظلم والتجبر هو الذي يوصل الإنسان إلى مهاوي الاستبداد وإلغاء الآخر، وليس شوائبه المتعلقة في نفوس كل واحد منّا، التي يمكن ترويضها ومعالجتها  بالرياضات الانفتاحية.  
الظلم من شيم النفوس فإن تجد         
                                 ذا عفـــــــــــــة فلعلة لا يــظلم
وفي المثل أن عجلة الديكتاتورية إذا تحركت تسحق حتى أقرب المقربين إلى الديكتاتور، ومن أعجب بنفسه هلك، ومن أعجب برأيه هلك، وأن عيسى بن مريم(عليه السلام) قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه، فقيل يا روح الله وما الأحمق؟ قال المعجب برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه ولا يوجب عليها حقا، فذاك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته. 
وأهم ميزة يمتاز بها الديكتاتور هي استهانته بعقول وأفكار الآخرين، بخلاف الحاكم الذي يستشير، فانه يعطي الآخرين من عقله ويأخذ من عقولهم، ويقلب آراءهم وينتخب الأصلح منها، لعله يكون فيه أنجع الدواء في معالجة المشاكل، ولهذا السبب حذر الإمام علي (عليه السلام) من مغبة الاستبداد بالرأي ورغّب في المشاورة بقوله (من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها) وكذلك قال – عليه السلام- (مكتوب في التوراة...ومن لم يستشر يندم). 
ولكي لا نقع في شباك الهلكة أو الندامة فلا مناص من أن تتحول الاستشارة إلى ثقافة متداولة بين الأفراد والأسر، وانه من الصواب أن يستشير الفرد جميع الذين من حوله من صغير وكبير وزوجة وأخوة وأخوات... ولا يمكن أن يستغني أحد عن الاستشارة مهما بلغ من الذكاء الخارق والفكر الوقاد، فالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رغم انه كان يملك- بغض النظر عن الوحي الإلهي- قدرة فكرية كبيرة تؤهله لتسيير الأمور وتصريفها دون حاجة إلى مشاورة احد، إلا انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يسعى لتعريف المسلمين بأهمية المشاورة وفوائدها ليتخذوها ركنا أساسيا في برامجهم، ولكي ينمي فيهم قواهم العقلية والفكرية كي لا تتغلغل الى اليهم روح الدعة والخمول والاتكال على عقول الغير، ويمكن القول بان هذا الأمر كان احد العوامل المؤثرة وراء نجاح الرسول الأكرم في تحقيق أهدافه الإسلامية العليا. 
ومن هذا المنطلق فان الحكام والسلاطين أحوج ما يكونون لمشاورة أهل الرأي والاختصاص، لأنهم يتحكمون بالعباد والبلاد، كما لا بد من توفر موجبات الحكم من التقوى والصلاح والعلم والعدالة والإنصاف، فضلا عن تفويض العباد له، لأن الحاكم إنما يكون وكيلا عنهم في تمشية أمورهم الخاصة والعامة، والوكيل لا يمكن أن يحيد عن موكله، ما دامت المطالبات تصب في خانة القوانين التي تجلب على الإنسانية جمعاء السعادة والرخاء.
وها هو القرآن الكريم يحض على استعمال المشورة في أدنى الأعمال، كإرضاع الولد وفطامه، ولم يبح لأحد الوالدين الاستبداد بذلك دون الآخر، بقوله تعالى( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) (سورة البقرة- آية233). 
فما بالك بأجلّ الأعمال خطرا وأعظمها فائدة، وهي قيادة الأمة وتقرير مصيرها! فهل بعد هذا من شك في حاجة الملوك والأمراء والرؤساء الركون إلى المشورة في تربية الأمم وتدبير شؤونها نحو الأحسن والأفضل وفي شتى مجالات الحياة؟!
ومادام العقل يهتف بنا قائلاً: من استبد برأيه هلك، فلنعمل على قلع جذور الاستبداد من أعماق ذواتنا قبل أن نستأثر بالحكم والمنصب، فان الملك عقيم، وإذا ما تعلقت شوائب الاستبداد في قلوبنا وتبوأنا مركزاً سلطوياً في المجتمع، فسنرتكب الموبقات والجرائم والآثام، وبمرور الزمن سنلغي  حق الآخرين حتى في التنفس وسنشك في أنهم بشر مثلنا! مثلما ارتكب الطغاة على مر العصور الغابرة.