محمد تقي الشيرازي (1840م- 1920م : ومضة ألق في ليل الغزاة المدلهم

قبل أكثر من قرن من الزمان كانت قوات الاحتلال الإنجليزي قد أحكمت  قبضتها على أغلب المدن العراقية بقوة النار والسلاح بما في ذلك العاصمة بغداد التي لم تستطع الصمود والمقاومة بسبب ضعف تجهيزات الدولة العثمانية وتردي معنويات مقاتليها  نتيجة الفارق العسكري والتعبوي الكبير بين الطرفين!

وبالرغم من المعاناة الكبيرة التي تحملها العراقيون نتيجة الإهمال المقصود للولاة العثمانيين في أغلب المرافق الخدمية والثقافية والصحيّة إلا أن ذلك لم ينل من عزيمتهم في مواجهة الغازي الجديد الذي وعدهم بالتحرير من نير الهيمنة العثمانية الجائرة، وقد اشتعلت ضراوة هذه المواجهة بعد أن بانت الوعود الكاذبة واتضحت نوايا هذا الغازي ومآربه في الهيمنة على مقدرات البلاد ونهب خيراتها الوفيرة.

وقد بلغت هذه العزيمة أوجها وعنفوانها في الثورة العراقية الكبرى التي انطلقت ضد الإنجليز يوم 30/حزيران من العام 1920م في عموم المدن العراقية وتركزت في القرى والقصبات الجنوبية منها نظرا للثقل البشري والاجتماعي الذي ميّز هذا الجزء من مناطق العراق.

ولما كان العراقيون بكلّ طوائفهم - آنذاك- حديثي عهد بالثورات وبالانتفاضات ذات الطابع السياسي لذا كان لا بد لهم من قيادات مثقفة ومحصنة وذات تأييد شعبي واسع كي تأخذ بأيديهم إلى برّ الأمان ، وهو ما وجدت له الجموع الثائرة أفضل تجسيد في رجالات المرجعية الدينية التي أخذت على عاتقها قيادة المقاومة العراقية ضد الغزاة في أول دخول لهم للعراق عن طريق ميناء الفاو عام 1914م، وقدمت على هذا السبيل كوكبة من الشهداء الذين يقف في مقدمتهم (السيد محمد سعيد الحبوبي) الذي جرح جرحا بالغا في إحدى معارك الشعيبة وأخلي من ساحة المعركة حيث وافته المنية في مدينة الناصرية حيث أقيم له فيها تمثال كبيرٌ ما زال يتوسط مركزها حتى يومنا هذا.

وربّما كانت شخصية السيد (محمد تقي الشيرازي) المولود بمدينة شيراز عام 1840م هي الشخصية الألمع في هذه الثورة وفيما تلاها من أحداث دراماتيكية أثبتت الحاجة الفعلية لمثل هذه القيادات الفذة في الظروف الحالكة التي يختلط فيها الحابل بالنابل وتصبح مسألة التمييز بين الخطأ والصواب عملية معقدة لا يقوى عليها إلا من حنكته تجاريب الحياة فاستطاع بحكمته وحنكته غربلة الغث من السمين وسط تلك الظروف الحالكة والمدلهمة.

  وقد تميّز السيد الشيرازي-رحمه الله- بصفات تنم عن امتلاكه لقدرات ذهنية وقيادية لا تتهيّأ للكثيرين، فإلى جانب كونه فقيها حاذقا وصل أعلى مراحل الاجتهاد في زمانه متصديا بعد رحيل المجدد الشيرازي لمسؤولية الافتاء التي لم تُثنه عن مهمة القيام بقيادة الثورة وتوجيهها الوجهة الصحيحة المتوافقة ومصلحة الشعب العراقي في إلغاء الوصاية البريطانية وقيام حكومة ذات طابع إسلامي تأخذ بعين الاعتبار مصالح الأمة وترعى أهدافها في تحقيق عيش رغيد يليق بمكانة هذه الأمة ويرفع من شأنها بين الأمم.

 ولذلك فقد كان بيته المتواضع في كربلاء إبان الثورة العراقية الكبرى مكانا لتوافد رؤساء العشائر العراقية وأمراء الطوائف والديانات المختلفة التي أعلنت ولاءها الكامل للثورة والتفافها حول قيادته ومناوأتها للإنجليز المحتلين، مثلما كان هذا البت منارا ومقصدا لطلبة العلوم الدينية التي كان فيها السيد الشيرازي أحد الأعلام المبرّزين في عصره وكما يشهد بذلك طلبته من العلماء الذين تتلمذوا على يديه.

وقد حيرت مواقف الشيرازي من الاحتلال البريطانيين أنفسهم، إذ يثبت ذلك من أرخ للاحتلال البريطاني من الكتاب والسياسيين البريطانيين كآرنولد ويلسن في كتابه (الثورة العراقية) وكالسيدة بيل في مذكراتها المشهورة عن السياسة البريطانية أيام الاحتلال البريطاني الذي عجز عن ترويض أو استمالة السيد الشيرازي في الوقت الذي استطاع استمالة أغلب المثقفين والمتعلمين من العراقيين وإقناعهم بضرورة الوصاية البريطانية التي كانت المؤسسة الدينية الشيعية ممثلة بشخص الشيرازي ترفضها كلّ الرفض.

  وحين تكاملت شروط الثورة العربية الكبرى اجتمع زعماء العشائر بالزعيم الروحي للثورة السيد الشيرازي الذي لم يخف قلقه من عدم نجاح الثورة قائلا لهم: (إن الحمل لثقيل وأخشى أن لا تكون للعشائر قابلية مواجهة بريطانيا العظمى بسبب تفاوت التسليح والتجهيز، وحتى لو نجحت الثورة فهل تضمنون لي سيادة القانون وعدم اختلال الأمن ) لكن بعد طمأنة زعماء العشائر له وتبديد مخاوفه قرر الشيرازي إصدار فتواه بجهاد المحتل وزلزلة الأرض تحت أقدامه وأخذ الحقوق المستلبة بقوة العزيمة والسلاح.

وقد حصل العراقيون من خلال هذه الفتوى على مجموعة مطالب عظيمة كان أهمها السعي لتشكيل حكومة وطنية تجتمع تحت خيمتها كل أفراد الشعب العراقي الذي أصبحت مسؤولية خدمته والقيام بها على أحسن وجه واجبا مقدسا عند هذه الحكومة الوطنية، غير أن الآثار التي تركتها الثورة على بريطانيا المجروحة الكرامة والعظمة بسبب مواقف الشيرازي كانت واضحة للعيان من خلال محاولتها فيما بعد للقضاء على السيد الشيرازي، وهو ما تم لها عن طريق عملائها وأذنابها الذين دسوا له السم فانتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها في أواسط شهر آب من العام 1920م، ودفن في الحائر بعد أن جرى تشييعه بموكب رسمي مهيب حضرته عشرات الآلاف من الجموع المستنيرة بمواقفه وأفكاره الخالدة....

 د. علي ياسين