الحسين (عليه السلام) تاريخ الشموخ والتضحيات

  

 

قلّة أولئك الذين يتسنمون قمم الخلود والسمو والعظمة، فمن هنا كان الخلود حقيقة حية لرسالات السماء، ولرسل السماء، ورجالات المبدأ والعقيدة... وفي دنيا الإسلام تاريخ مشرق نابض بالخلود، قمم من رجال صنعوا العظمة في تاريخ الإنسانية، وسكبوا النور في دروب البشرية وإذا كان للتاريخ أن يقف وقفة إجلال أمام أروع أمثولة للشموخ، وإذا كان للدنيا أن تكبّر لأروع تضحية سجلها تاريخ الفداء، وإذا كان للإنسانية أن تنحني في خشوع أمام أروع أمثولة للبطولة...فشموخ الحسين وتضحية الحسين، وبطولة الحسين، أروع أمثلة شهدها تاريخ الشموخ والتضحيات والبطولات.

انه عليه السلام قمة من قمم الإنسانية الشامخة، وعملاق من عمالقة البطولة والفداء، فالفكر يتعثر وينهزم، واليراع يتلكأ ويقف أمام إنسان فذ كبير كالإمام الحسين، وأمام وجود هائل من التألق والإشراق، كوجود الحسين، وأمام حياة زاهرة بالفيض والعطاء كحياة الحسين، ومن أجل كلّ هذا فإننا لا يمكن أن نلج كل آفاق العظمة عند هذا الإمام ، فكلما تصاعدت هذه الأبعاد، واتسعت هذه الأطر، كان الانفتاح على آفاق العظمة في حياة الإمام أكثر وضوحاً، وأبعد عمقاً...

ولم تقتصر عظمة الإمام الحسين (عليه السلام) على نهضته المباركة فحسب بل توفرت فيه(عليه السلام)، جميع العناصر التربوية الفذّة التي لم يظفر بها غيره، فأخذ بجوهرها ولبابها وقد أعدته لقيادة الأمة، وتحمُّل رسالة الإسلام بجميع أبعادها ومكوناتها، كما أمدته بقوى روحية لا حدود لها من الإيمان العميق بالله، والخلود إلى الصبر على ما انتابه من المحن والخطوب التي لا يطيقها أي كائن حي من بني الإنسان.

ولا يمكنننا أن نعيش العطاء الحي لفيوضات الحسين، ولا يمكن أن تغمرنا العبقات النديّة، والأشذاء الرويّة، لنسمات الحياة التي تنساب من أفقه، ولا يمكن أن تجللنا إشراقات الطهر التي تنسكب من أقباس الحسين إلا إذا حطمت عقولنا أسوار الانغلاق على النفس، وانفلتت من أسر الرؤى الضيقة، وتسامت أرواحنا إلى عوالم النبل والفضيلة، وتعالت على الحياة المثقلة بسفاسف الفهم المادي الزائف.

وإن عطاء الحسين، فتح أمام العقول مسارب الانطلاق إلى دنيا هذا الإمام الفذ، فجدّه محمد سيد المرسلين صلى الله عليه وآله، وأبوه علي بطل الإسلام، وأمه الزهراء فاطمة سيدة نساء العالمين، وأخوه السبط الحسن ريحانة الرسول.. نسبٌ مشرق وضّاء، ببيت زكي طهور.

ففي أفياء هذا البيت العابق بالطهر والقداسة، ولد سبط محمد (صلى الله عليه وآله)، وفي ظلاله إشراقة الطهر من مقبس الوحي، وتمازجت في نفسه روافد الفيض والإشراق، تلك هي بداية حياة السبط الحسين، أعظِم بها من بداية صنعتها يد محمد وعلي وفاطمة (صلى الله عليهم أجمعين)، وأعظِم به من وليد، غذّاه فيض محمد (صلى الله عليه وآله) وروى نفسه إيمان علي (عليه السلام)، وصاغ روحه حنو فاطمة (عليها السلام)، وهكذا كانت بواكير العظمة تجد طريقها إلى حياة الوليد الطاهر، وهكذا ترتسم دروب الخلود في حياة السبط الحسين، فكانت حياته (عليه السلام) زاخرة بالفيض والعطاء، وكانت حياته شعلة فرشت النور في درب الحياة، وشحنة غرست الدفق في قلب الوجود، هكذا قرأنا الحسين وفهمناه وعلِمناه..

وكما ضحّى المسيح بكل ما يملك من اجل إرساء الحرية وحقوق البشرية جمعاء فلقد ظلت ذكرى استشهاد الحسين تصدع في نفس كل مسلم غيور، رفض ويرفض الذل والمهانة، فهي واقعة خسر الحسين أهله وعشيرته من أجلها كما هو المسيح عليه السلام، ولكنه علّم الكون كيف تكون قوة المبادئ، وقوة الإرادة، فمحي أثر يزيد بعد أن عاش مهووساً (مرض الهوس) بمقتل الحسين، وعاش اللوثة العقلية في حياته بفعل ما اقترفه من ذنب، وانمحى أثره بعد موته، وظل الحسين (عليه السلام) شاخصاً بذكراه عبر القرون، ذكرى تظل تتجدد عبر العصور.

واليوم ليس هناك من هو أحوج منّا للإمام الحسين، المثال في قوة الإرادة وصلابة العزيمة في المواجهة والدفاع عن قضيته، قضية الوجود الإنساني بأسره، ومن هنا عدت النهضة الحسينية انعطافاً خطيراً في حياة الأمة، لم تمحها عشرات القرون، وما زالت تتجدد كل عام، فنحن في حاجة إلى تأكيد لثورة الحسين في معناها، وما آلت إليه من نتائج، وليس الواقعة بحد ذاتها، وإنما رموزها وأبعادها النفسية.

من حوار اجرته مجلة الروضة الحسينية مع الأستاذ حميد مراد بطرس