المغترب والدور الرسالي

السيد منير الخباز
بسم الله الرحمن الرحيم
«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» (15سورة الملك) 
انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في محورين
1- هدف الدين من الحياة.
2- الدور الرسالي للمغترب.
هناك سؤال طالما طرحه الكثير وهو: هل أنّ الدين يقتصر هدفه على بناء الفرد؟ أم يشمل هدفه بناء الفرد والحياة؟
ولا إشكال أنّ الإنسان له دوران في هذه الحياة:
1- دوره في إقامة العلاقات الاجتماعية المبنيّة على أسس وقيم.
2- دوره في بناء الحضارة المادية.
ويهتمّ الدين بالدور الأول قطعاً، لأنّ الدين هدفه بناء القيم السلوكية للإنسان كما في قوله (عزّ وجلّ): «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (134آل عمران) لكن السؤال هو: هل اهتمّ الدين بالدور الثاني؟ وهو بناء الحضارة التكنولوجية وبناء الحضارة المادية؟ أم اقتصر اهتمامه على الدور الأول؟ وهو بناء القيم الخلقية؟!
هنا عندنا ثلاثة اتجاهات في هذا الحديث:
 
 الاتجاه الأول: الاتجاه العرفاني:
فعلماء العرفان يقولون: الهدف الأساس للدين هو (بناء الروح) أو التكامل نحو السموّ الروحي؛ وليس من أهداف الدين الأولى بناء الحضارة المادية، ويؤسّسون نظرتهم هذه على أمرين:
• الأمر الأول: 
هو أنّ الإنسان يعيش دائما في الآخرة. وذلك بأنّ الإنسان عندما كان في بطن أمه ما كان يعرف أن وراء ذلك عالم آخر تعيش فيه أمّه؟! لكن حينما خرج من رحم أمّه عرف الحقيقة وأنه كان يعيش ليس في رحم فقط بل كان يعيش في عالم أوسع، ونفس الشيء للإنسان إذا خرج من الدنيا وكأنّ نسبة الدنيا للآخرة نسبة رحم الأمّ لدنيا الإنسان، وهو في هذه الدنيا إنما يعيش في الآخرة وهو لا يعلم لأنّ الآخرة هي عبارة عن العالم الأوسع من هذا العالم الماديّ.
وبمعنى أدقّ.. نحن الآن نظنّ أن العالم هو ما نراه من سماء وأرض، ولكن بمجرد أن نموت نلتفت إلى أنّ هذا العالم نقطة صغيرة في عالم أوسع، وأن هذا العالم الذي كنّا نعيش فيه نفس الشيء بالنسبة للرحم إلى عالم الدنيا تماما، لذلك يعتبر الموت للإنسان ارتفاعٌ للحجاب وانكشاف لعوالم أخرى، كان يعيش فيها لكنه لم يكن يشعر بها، ولقد كنت في غفلة من هذا ولم تكن تعلم أن العالم أوسع، إذ يقول الباري (تبارك وتعالى): «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22 سورة ق) أي عرفت الآن أنّ العالم أوسع من عالم الدنيا.
 
• الأمر الثاني: 
بما أنّ الإنسان يعيش في الآخرة فهو في باله يعيش في الدنيا وهذا غير صائب، فالعرفاء يقولون: إن الدنيا منطقة من مناطق الآخرة مثلما الرحم منطقة من مناطق الدنيا، والدنيا هذه كلها منطقة من مناطق الآخرة، وبما أنّ الإنسان يعيش في الآخرة دائما وهو يعتقد أنه يعيش في الدنيا لكنه يعيش حقيقة في الآخرة لذلك فالهدف الأساس من وجوده هو إعمار الآخرة لا أعمار الدنيا، والدنيا طريق مثلما الرحم طريق وممرّ، والهدف الأساس هو: إعمار الآخرة ويستدلّ علماء العرفان على هذه النظرية من قوله عز وجل: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»(29 العنكبوت) والحيوان تعني الحياة الحقيقة.
 
 الاتجاه الثاني: الاتجاه العلماني:
وأصحابه يقولون: إن الدين هدفه بناء القيم الخلقية والإنسانية، أي أنّ هدفه أن يتحول الإنسان إلى متواضع صادق أمين عادل يحترم الآخرين، وليس هدف الدين إقامة حضارة مادية، وقد اعتمد الدين على التجربة الإنسانية والخبرة العقلية في بناء الحضارة، ولم يتكفّل الدين بنظام حضاري لأنه ليس عنده نظام دولة ولا نظام حضارة، فهدفه أن يبني القيم الخلقية والإنسانية لذات الإنسان.
والعلمانية عندما تطرح هذا المفهوم ترتكز على أمرين:
 
• الأمر الأول:
عبارة عن تساؤل: هل أن التديّن يخدم التمدّن؟! أم أنّ التمدّن يخدم التديّن؟!
فلربما يتصور الإنسان أنه كلما أصبح متدينا أصبح أقدر على بناء الحضارة من غير المتدين، وهذا ليس صحيحاً، فالتدين ليس له علاقة بالحضارة، ولا علاقة له بالتمدّن، وليس كلما أصبح الإنسان متدينا أمتلك قدرة على بناء الحضارة أو تقدّمَ تكنولوجياً أكثر من غير المتدين، بل الأمر بالعكس، فالتمدّن يخدم التديّن أي أنّ الإنسان إذا عاش في حضارة مادية مستقرة ووُفّرت له وسائل العيش الكريم سيكون متوجّهاً إلى الله وسيقوى إقباله على الله (تبارك وتعالى)، لأنّه لم يعد مشغولا بالحاجات المادية.
بينما إذا عاش في اقتصاد منهار وأصبح مشغولاً في البحث عن لقمة العيش لم يستطع أن يتوجّه إلى ربّه، فالتمدّن يخدم التديّن، وإذا أصبح الإنسان حضاريا أصبح متدينا، وليس إذا أصبح متدينا أصبح حضاريا، وربما يؤيّد هذا ما ورد عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "اللهمّ بارك لنا في الخبز ولا تفرق بيننا وبينه فلولا الخبز ما صَلّينا ولا صُمْنا ولا أدّينا فرائض ربنا" ولا يُقصد بالخبز هذا الذي نأكله بل كناية عن الثروة، بمعنى أنّ الإنسان إذا عاش في فقر فلا يستطيع أن يتوجه إلى الله (تبارك وتعالى).
 
• الأمر الثاني:
ممّا يؤكد أن التمدّن يخدم التدين، أن التدين مثل ما هو لم يتغيّر من قبل ألف سنة فهو موجود، ولكن التمدّن لم يكن موجودا، ولكنه لم يخلق حضارة ولم يخلق تكنولوجيا، وإنما الذي ساهم في خلق التكنولوجيا وصنع الحضارة هو التقدم العلمي للإنسان لا التقدم الديني، لذا تؤكد العلمانية بناء على هذا أنّ الدين لا يهدف إلى بناء حضارة مادية، بل أوكل هذا الدور إلى عقل الإنسان نفسه، فيما يرتكز الدين على بناء القيم الخلقية والإنسانية لدى الإنسان. 
 
 الاتجاه الثالث: الاتجاه الإسلامي: 
ويقول أصحابه: إنّ الدين هدفه بناء الحياة لا بناء الفرد فقط، فكما يهدف الدين إلى بناء القيم الإنسانية التي تضمن العلاقات الاجتماعية السليمة، كذلك يهدف أيضاً إلى بناء الحضارة المادية والاقتصاد العامر، ويستدّل الإسلاميّون على هذا بقولهم:
إنّ الهدف الذي طرحه القرآن لا يتعلق ببناء الفرد بل الهدف الذي طرحه القرآن يتعلق ببناء العدالة على الأرض فإنّ الله (عزّ وجلّ) يقول: « لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (25 الحديد) يعني لتحقيق العدالة الاجتماعية، وهكذا نجد أن الهدف من الرسالات السماوية كلّها ليس بناء الأخلاق فقط بل تطبيق العدالة على الأرض، والدين عندما يقول أنّ هدفي هو تطبيق العدالة على الأرض لابد له أن يضع نظاما لتطبيق هذا المشروع الإلهي الكبير.
الماركسية أيضاً تنادي بتطبيق العدالة والنظام الرأسمالي أيضاً ينادي بتطبيق العدالة ومن ينادي بتطبيق العدالة لابدّ أن يطرح رؤية ونظاما لتطبيقها حتى تنسجم فلسفته مع نظامه، فالدين عندما يدعو لتطبيق العدالة على الأرض فلابدّ أنه تكفّل بوضع نظام على ضوئه تتحقق العدالة العامة على الأرض هذا الوجه الأول.
الوجه الثاني: ما معنى الحضارة عندنا؟
الحضارة لها دعائم ثلاثة:
1- الفنون. 
2- العلاقات.
3- الاقتصاد.
والعصب الأساس والرئيس لكلّ حضارة هو (الاقتصاد)، وإذا أردنا أن نعرف إنْ كان للدين حضارة أم لا فلابدّ أن نسأل: هل للدين نظام اقتصادي أم لا؟ أو هل للدين فلسلفة اقتصادية تختص به أم لا؟ وإذا أثبتنا أن الدين له فلسفلة اقتصادية نكون قد أثبتنا أنه يهدف لبناء حضارة مادية كما يهدف لبناء الفرد.
ولدينا ثلاثة أنظمة رئيسية في هذا المجال، وهي:
1- النظام الرأسمالي: وهو الذي يسود العالم اليوم.
2- النظام الماركسي والاشتراكي :الذي تضاءل دوره وانحسر.
3- النظام الإسلامي.
وتختلف هذه الأنظمة في تشخيص المشكلة الاقتصادية، فالنظام الرأسمالي يعتقد أنّ المشكلة الاقتصادية هي في قلّة الموارد الطبيعية، بمعنى أنّ الطبيعة أصبحت قاصرة عن تلبية حاجات الإنسان، وأنّ الموارد الطبيعية أصبحت لا تستطيع أن تلبّي حاجات الإنسان المتنوعة، لذلك يقع التزاحم والتسابق بين رجال الأعمال وأصحاب المشاريع الاستثمارية على حيازة الثروة، لأنّ الموارد الطبيعية أقلّ مما يحتاجه الإنسان، وهذه هي المشكلة بنظر الاقتصاد الرأسمالي.
وأمّا الاقتصاد الماركسي فإنّ المشكلة عنده في التناقض بين شكل الإنتاج وبين نظام التوزيع، فهل أنّ نظام التوزيع نظام فردي وكلّ فرد يستطيع أن يملك ما يشاء؟ أو نظام التوزيع نظام تأميمي، بمعنى أنّ الثروات إذا تأمّنت فتكون للمجتمع بأسره لا للفرد، فالتناقض بين شكل الإنتاج ونظام التوزيع هو مصدر المشكلة الاقتصادية في رؤية النظام الاشتراكي.
والنظام الإسلامي يرى أنّ جوهر المشكلة في الإنسان نفسه فالإنسان هو المشكلة فكيف ذلك؟
يقول تبارك وتعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34 إبراهيم)، فالمشكلة إذن ليست في الموارد الطبيعية، فالطبيعة ثرية وليس كما يقول النظام الرأسمالي أنّ الطبيعة ضيقة، فهي مملوءة بالثروات والكنوز، وإن المشكلة في الإنسان، إذ يقول الله (سبحانه وتعالى): « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» (72 الأحزاب) فالمشكلة هي في الإنسان بما لديه من غريزة حبّ الحياة التي ولّدت لديه غريزة السيطرة على كلّ شيء، حتى لم يعد يقف أمام نهمه وجشعه شيء أبداً، ويصف الله (جلّ جلاله) ذلك بقوله: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى » (7 العلق).
إذن فالمشكلة هي في الإنسان ونزعته التملّكية السلطوية الفردية التي تسيطر عليه، ومن خلالها يريد أن يتملّك الأشياء كلّها، حتى وإن كانت تتعارض مع المصالح العامة، وهنا مكمن المشكلة وهي: كيف نوفّق بين النزعة الفردية والمصلحة العامة؟ وهذه هي المشكلة بنظر الدين، فالموارد الطبيعية غير قاصرة، وليس التناقض بين شكل الإنتاج ونظام التوزيع كما يقول الاشتراكيون هو المشكلة، بل التناقض عند الإنسان نفسه، فالإنسان يعيش تناقضا بين نزعته الفردية واحترامه للمصلحة العامة. 
إنّ الإسلام شخّص المشكلة ولابدّ أن يكون قد وضع لها حلاً، أي وضع نظاما اقتصاديا، ومتى ما وُضِعَ نظام اقتصادي فقد وضعت حضارة مادية وسوهم في بناء حضارة مادية.