دمعتنا حرية

يحيى الفتلاوي

لطالما شنع كثير من النفعيين والجهلاء على أتباع أهل البيت عليهم السلام وبخاصة فيما يتعلق بأدائهم تلك الشعائر التي يمارسونها بهدف التعبير عن آرائهم في بعض القضايا المهمة في حياتهم ومنها على سبيل المثال لا الحصر قضية البكاء لمصائب أهل البيت (عليهم السلام) المختلفة وعلى رأسها فاجعة الطف الأليمة، حيث استشهد فيها حفيد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه دفاعا عن الحق والحرية، الأمر الذي أدى إلى تلك الجريمة النكراء التي قامت بها من قبل زمرة الكفر والطغيان ممثلة ببني أمية ومن تبعهم بحثا عن ملذات دنيا يهيؤها لهم يزيد عليه لعائن الله تعالى.

ولقد كتب العلماء والمفكرون والمحللون كثيرا من الردود والدراسات التي تؤكد مشروعية البكاء على الشخص العزيز وانه ليس بشيء غريب عن منهج الدين الإسلامي الحنيف، وان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لطالما بكى على الأعزاء والأحباب عبر الكثير من الأحاديث الواردة عنه وعن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ومنها بكاؤه على ولده إبراهيم وكذلك من زوجته خديجة الكبرى (عليها السلام) وعلى أعمامه أبي طالب وحمزة (عليهما السلام)، مما يؤكد بما لا يقبل الشك أن البكاء ليس أمرا محرما في الشريعة الإسلامية الإنسانية السمحاء، إنما هو أمر مقبول وليس فيه أدنى مخالفة للقيم والتعاليم الدينية.

بعد أن أسقطت تلك الدعوى الصادرة من بعض الذين أخذوا من الدين الإسلامي بعض قشوره التي تحقق لهم ما يريدون بثه من سموم في المجتمع الإسلامي من خلالها، لجأوا إلى سلوك طريق أخرى عبر ما يسمى بالعرف، وبالتحديد عبر مسمى ومعنى الرجولة بمعناها المجرد عن الإنسانية، فأوهموا بعضا من الجهلاء بان البكاء على أية مصيبة مهما كان حجمها إنما هو أمر يُخرج الرجل من إطار ذلك المسمى، وان على الرجل أن يكون ذا قلب قوي فلا تهزه أية عاصفة، ولا يكون الرجل رجلا ولا ينال مرتبة البطولة ما لم يتصف بهذه الصفة، وإن من يتصف بها - أي البطولة والرجولة- لا بد أن لا تدمع عينه ولا يحزن قلبه، وهم بذلك يريدون للإنسان أن يكون جمادا لا روح فيه أو آلة دون مشاعر.

وقد غفل أولئك المتمسكون بهذه الدعوى أن البكاء لا يعتبر خروجا عن مفاهيم الرجولة والبطولة التي يتصورونها أو التي صوروها للكثير من الناس الذين لا يدركون المعنى الحقيقي للبكاء وأثره في إحياء النفس الإنسانية وجعلها مرهفة الحس، وإنعاش القلب وجعله يستشعر الآلام والأحزان فيتأثر تارة لما يصيبه وتارة أخرى لما يصيب غيره وعندئذ يسعى كل واحد من أفراد المجتمع إلى دعم ومساعدة صاحبه عند مصيبته وشدته، ويفرح لفرحه، وحينها فقط يكون المجتمع إنسانيا وتنعدم فيه روح العداء وينمحي من النفس ما يختلجها من شهوات وأطماع.

وقد كانت انطلاقة أمثال هذه الادعاءات بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبغضّ النظر عن مروجيها وأسباب انطلاقها فإن هناك وجهة نظر أخرى في الموضوع ربما التفت إليها البعض دون البعض الآخر، وهذه المسألة تتمثل بدعوات أصحاب السلطة وقراراتهم على مدى تاريخ تسلطهم، حيث دأبت تلك الحكومات إلى إصدار المراسم والقوانين الداعية لمنع الشعائر الولائية بكل أنواعها والبكاء على مصائب أهل البيت(عليهم السلام) حصرا، وخاصة من قبل حكام بني أمية، لما لها من أثر بالغ وكبير في تأجيج الثورات ضدهم فدأب أولئك الطغاة إلى محاربة هذه الشعيرة بسبل شتى ومنها إنزال مختلف العقوبات بكل من يمارسها أو يدعو لها أو يساعد على نشرها وتبيان فضلها وأهميتها، وذلك للحيلولة دون تمرد الجماهير على الحكام مهما كانت أفعالهم من جهة، ومن جهة أخرى لتكون الخطوة الأولى في القضاء على ذكر أهل البيت (عليهم السلام) مما سيؤدي إلى نجاحهم في الختام من القضاء على الإسلام كله.

وهنا كان لا بد للمجتمع – والحال هذه – أن يظهر فيه نوعان من الناس، أولهما النوع المؤيد والداعم للحكومات الباطلة والنوع الآخر هو النوع المعادي أو المخالف لها، وبين خوف البعض من بطش السلاطين واقتناع البعض الآخر بتلك الادعاءات  فقد امتثل الكثير من الناس وامتنعوا عن البكاء على مصائب أهل البيت (عليهم السلام) تلبية لأوامر الحكام، بل ومالَ الكثير من المتزلفين للحكام إلى مساندة أولئك الطغاة والمتجبرين في تنفيذ مقرراتهم، فلم يكتفوا بالامتناع عن تلك الممارسة فقط بل لجأوا إلى الوشاية بكل من يقوم بإحياء ذكرى لأهل البيت (عليهم السلام) أو يدعون الناس إلى البكاء على مصائبهم، أو نشر التعاليم والأحكام الصادرة منهم لأتباعهم، وغالبا ما كانت الوشاية من أجل نيل جائزة معينة أو الحصول على رضا أصحاب القرار والسلطة والفوز بالأثرة لديهم، وهم بهذا صاروا عبيدا لأولئك الملوك والسلاطين ينفذون كل ما يصدر منهم من أوامر حتى ولو كانت مخالفة لقوانين وأحكام الدين الإسلامي.

ولكن أتباع أهل البيت(عليهم السلام) وعلى مدى التاريخ وبمجمل فصوله رفضوا الخضوع لتلك الأوامر، ولم تردعهم يوما تلك العقوبات التي كان ينزلها بهم أصحاب الحكم والسلطة، بل ظلوا يمارسون تلك الشعيرة ليس من باب الحصول من جرائها على الثواب من الله تعالى أو لنيل رضا أهل البيت (عليهم السلام) عنهم فحسب، بل من اجل التعبير عن حريتهم في إظهار مشاعرهم، وتأكيدا منهم على عدم الانصياع لأوامر السلاطين الرامية لتحقيق أهدافهم الخبيثة الرامية إلى القضاء على كل ما من شأنه التذكير بمصائب أهل البيت(عليهم السلام) والتعريف بمظلوميتهم، وهكذا كانت الدمعة التي تسكب عند إحياء ذكرى لأهل البيت (عليهم السلام) سلاحا فتاكا في وجه الظالمين.

نعم لقد كانت دمعتنا على مدى التاريخ تعبيرا عن التمسك برأينا ورفضنا أن نكون أداة طيعة بيد المغتصبين والظالمين يحققون من خلالنا أهدافهم ومراميهم الخبيثة، فيما رضي الكثير ممن سوانا أن يكونوا كذلك، فصاروا عبيدا لأولئك السلاطين، فيما أبينا نحن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) إلا أن نكون عبادا لله الواحد القهار، وأداة لكشف الظلم والطغيان وفضح مخططاته ولو كان ذلك من خلال تلك الدمعة فقط، فحقّ علينا أن نسميها - إضافة لكونها دمعة للحزن - بدمعة الحرية.