قراءات في نصوص النهضة الحسينية

 د. الشيخ عماد الكاظمي

إنَّ النهضة الحسينية الخالدة قد كتبت للأجيال بدماء شهدائها طريق الخلود، وسبيل الحرية والإباء، ولا يمكننا أنْ نعرف حقيقتها ما لم نقرأ تلك النهضة قراءة تحليلية دقيقة، توازي أهدافها المقدسة، وشخوصها الذين ضحوا بأنفسهم في سبيلها، وإحدى تلك القراءات تكمن في تحليل نصوص سيد الشهداء (عليه السلام) الصادرة عنه في يوم عاشوراء، وما قبله، فقد وردت عنه مجموعة من الأحاديث التي تستحق القراءة والتأمل للتعرُّف على أهداف عظيمة، وأحاول في هذه السطور بإيجاز أنْ أسلط الضوء على حديث واحد من سلسلة أحاديثه (عليه السلام).

قال الإمام الحسين (عليه السلام): ((إِنِّي لا أَرَى المَوْتَ إِلا سَعادَةً، وَالحَياةَ مَعَ الظَّالمِينَ إلا بَرَمًا)).

نحاول قبل دراسة هذه المقولة المباركة تعريف أهم الكلمات التي تحتاج إلى بيان في اللغة، لنتعرف على أبعاد الألفاظ التي ٱستعملها الإمام الحسين (عليه السلام) في خطاباته.

(البَرَمُ): ((هو السُّؤْمُ والضَّجَرُ، والبَرَمُ بالتحريكِ مصدرُ بَرِمَ بالأَمْرِ بالكسرِ بَرَمًا إذا سَئِمَهُ فهو بَرِمٌ ضَجِر، وقد أَبْرَمَهُ فلانٌ إبْرامًا أي: أَمَلَّهُ وأَضْجَرهُ فَبَرِمَ وتَبَرَّمَ به تَبَرُّمًا، ويُقال: لا تُبْرِمْنِي بكَثرةِ فُضولِكَ، يَبْرَمُ بَرَماً بالفتح، إذا سَئِمَهُ ومَلَّهُ)). ([1])

إنَّ هذا المقطع من حديثه (عليه السلام) عندما كان متوجهًا في طريقه إلى كربلاء إذ وقف بـ(ذي حُسَم) ([2]) وألقى خطبته التي جاء فيها مخاطبًا أصحابه بعد أنِ ٱلتقى به جيش ٱبن زياد بقيادة الحر بن يزيد الرياحي: ((فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه قد نزلَ من الأمرِ ما قد ترون .... فإنِّي لا أرى الموتَ إلا سعادةً، والحياةَ مع الظالمينَ إلا برمًا)). ([3])

فالإمام الحسين (عليه السلام) يقرر في هذه المقولة مسألتين مهمتين من المسائل التي أكدت عليها الشريعة الإسلامية المقدسة وهما: الشهادة، ونبذ الظلم.

والقرآن الكريم والسنة الشريفة قد قررتا هذين المبدأين اللذين أشار إليهما الإمام الحسين (عليه السلام) في خطبته، وهو بذلك يدعو الناس إلى الارتباط بتعاليم الشريعة المقدسة، وإحياء هذه المبادىء بعدما عمل الظالمون على إماتتها في نفوس المسلمين؛ ليجعلوا منهم أمةً خاملةً لا يهمها أمر دينها ورفعته، بل الخضوع والخنوع للحاكم مهما كانت صفاته، فالمهم هو الطاعة والإذعان له، فأراد الحسين (عليه السلام) أنْ يؤكِّد للأمة أنها لا يمكنُ أنْ تَحيى حياة كريمة إلا بترك الدنيا والابتعاد عن لذاتها، وتوطين النفس للقتل في سبيل الله تعالى، لذلك عبَّرَ عن الموت في سبيل ذلك بـ(السعادة)، وفي ذلك كمال الهدف الذي يبتغيه الإنسان المؤمن من الوصول إلى الله تعالى.

 ومن الآيات المباركة التي أكدت هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ([4])، فإنَّ هذه الآيات من أوضح آيات القرآن الكريم التي يُعَدُّ الحسين والمستشهدون معه من أعظم مصاديقها، وهي عين ما أشار إليها في كلمته، فأيُّ سعادةٍ أعظم من سعادة لقاء الله تعالى بدماء الشهادة، والحياة الحقيقية السرمدية عند الله تعالى، والخلود الأبدي، والمفسرون قد ذكروا ذلك في تفاسيرهم، إذ قال الزمخشري (ت538هـ/1143م): ((والمعنى: ويستبشرون بما تبيَّنَ لهم من حال مَنْ تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يُبعثون آمنين يوم القيامة، بَشَّرهم الله بذلك فهم مستبشرون به، وفي ذكر حال الشهداء وٱستبشارهم بمَنْ خلفهم بعثٌ للباقين بعدهم على ٱزديادِ الطاعة، والجدِّ في الجهاد، والرغبةِ في نيل منازل الشهداء، وإصابةِ فضلهم، وإحمادٍ لحال مَنْ يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الله، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب)). ([5])

فهذه إحدى أبعاد الشهادة وآثارها على الإنسان وهي حقيقةٌ يجب علينا أنْ نتأمل فيها، وهو أنَّ الشهادة تخلِّدُ الإنسان الخلود الحقيقي عند الله تعالى، وقد أشار النبي (صلى الله عليه وآله) في بيان شعور الشهداء وأثر هذه النعمة عليهم بقوله: ((مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا ، وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدُ ، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ ، فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ)). ([6])

إنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) باستشهاده قد ﭐكتسب الخلود العظيم في الأمة، فصار يوم عاشوراء أعظم مدرسة للذين يبحثون عن الحياة الحقيقية، وإلى الذين يريدون إقامة الحق والعدل بين أبناء المجتمع، من خلال عدم المبالاة بلذات الدنيا وزخارفها، والتضحية بها في سبيل المبادىء السامية، وفي سبيل تطبيق الشريعة المقدسة، وقد رأينا على مدى التأريخ كثرة الذين تأثَّروا بالنهضة الحسينية ومبادئها، وحملوا لواءها شعارًا للشهادة، والبطولة والإباء، وما رأيناه من تضحيات عظيمة للمجاهدين الذين لبَّوا نداء المرجعية الدينية في فتوى الدفاع الكفائي عن المقدسات لأعظم شاهد على خلود عاشوراء في ضمير الأمة، فخرجت تلك الثلة المجاهدة تلبي نداء المرجعية، مستلهمة من مدرسة عاشوراء روح التضحية والفداء، فسطَّرت أروع البطولات على صفحات التأريخ.

وأما الحياة في الدنيا مع ولاية الظالمين فإنها لا تورث إلا الذلَّ والهوان وسخط الله تعالى ومصير الإنسان إلى النار، وقد حَذَّر الله تعالى إذ قال محذرًا عن التعاون معهم: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ([7])، والأحاديث في التحذير من موالاة الظالمين والتعاون معهم كثيرة في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: ((العاملُ بالظلمِ، والمعينُ لهُ، والراضي بهِ، شركاءُ ثلاثتهُمْ)). ([8])، وقال (عليه السلام): ((مَنْ عذرَ ظالمًا بظلمهِ سلَّطَ اللهُ عليه مَنْ يظلمهُ، فإنْ دعا لم يستجبْ له، ولم يأجرْهُ اللهُ على ظلامتهِ)).([9])

فالإمام الحسين (عليه السلام) هو ترجمان القرآن وربيبه وأراد من خلال تلك الكلمات أنْ يكتبَ درسًا إيمانيًّا خالدًا بمداد دمائه، وبقرطاس أرض كربلاء؛ لتكون هذه البقعة قبلةَ الأحرار دون سواها، وليكون الحسين سيد الشهداء ما دام للشهادةِ ذِكْرٌ إلى يوم القيامة، كما هو سيد شباب أهل الجنة ما دامت الجنان خالدة بإذن الله تعالى، لأنه يؤمن بأنَّ الموتَ بعزٍّ خيرٌ من العيشِ بذُلٍّ.

 


([1]) لسان العرب، ٱبن منظور مادة (برم).

([2]) ذو حُسَم: بالضم ثم الفتح، ويروى بضمتين (حُسُم) وهو ٱسم موضع في شعر النابغة. معجم البلدان، الحموي ج2 ص258.

([3]) تأريخ الأمم والملوك، الطبري  ج 4 / ص 305 .

([4]) سورة آل عمران: الآيات 169-171.

([5]) تفسير الكشاف ج1 ص467.

([6]) ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج4 ص1515.

([7]) سورة هود: الآية 113.

([8]) الكافي، الشيخ الكليني ج2 ص333.

([9]) المصدر نفسه ج2 ص334.