سيميائية الألوان في القرآن

يتصف القرآن الكريم بصفة الإعجاز على عدة مستويات, فقد انبهر به العرب والعجم في عصر نزوله، وحار به أرباب البلاغة والفصاحة. هذا ما جعل عمالقة اللغة يعترفون بكونه كلاما فوق كلام البشر. ولأنّ المجتمع العربي آنئذ مشهور بتواضع ثقافته، فلم يكن بإمكانه التفكير بالقرآن إلا في جانبه اللغوي. ومع انتشار الدعوة انبرى المفكرون يتدبرون في آياته، فانكشفت لهم جوانب إعجاز غير متناهية فيه.

بيد أن كثيرا من أسراره باتت عصية على الحل. من ذلك ما جاء به من استخدام للّون وعلاقة ذلك بالإنسان وبالطب والأدب. فعلم الألوان اليوم يدرَّس في أرقى الجامعات العالمية، حتى عاد يحوي نوعا من أنواع الاستشفاء. فللّون تأثير كبير على الإنسان من حيث الشخصية والنظرة إلى الحياة وغير ذلك. يقول سبحانه: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).

وقد وردت كلمة(اللون) في القرآن الكريم تسع مرات. وقد وردت في القرآن ستة ألوان بصورة مباشرة: الأخضر والأصفر والأبيض والأسود والأحمر والأزرق. وقد تأتي بصورة كلمات دالة عليها كالليل والنهار والنور والظلام.

والسيمياء تعريفا: هو "العلم الذي يَدرُس حياة العلامات وأنظمتها"، ويختص بدراسة نظام الإشارات والعلامات والدلالات كدراسة الرسوم والخرائط والصور  والنماذج والرموز واللغة. وكانت ولادة السيمياء الحديثة كعلم على يد اللغوي السويسري دي سوسير من أوروبا واللغوي شارلز بيرس من أمريكا. لكنه لم يكن في الأصل وليد العصر الحديث، بل أن علماء اللسانيات العرب والعجم القدامى قد اهتموا به منذ أكثر من ألفي عام. فقد تناول أفلاطون في كتابه Cartyle موضوع السيمياء. فهو يقول أن للأشياء جوهرا ثابتا، والكلمة أداة للتوصيل، وبين الكلمة والمعنى (الدال والمدلول) تلاؤم طبيعي. فاللفظ يعبّر عن حقيقة الشيء. وأكد اللغويون العرب على ذلك فيما سمي بعلم أسرار الحروف. فكان منهم لغويون برعوا في ذلك مثل الحاتمي وابن خلدون وابن سينا والفارابي والغزالي والجرجاني والقرطاجني وسواهم.

فكان الموجه للدرس السيميائي لدى العرب هو القرآن الكريم الذي دعا إلى التأمل في العلامة لاكتشاف ما تتضمنه من بنية دلالية، فكان ذلك في مواضع عدة، منها قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)(الرعد| 4)، وقوله: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون)(النحل| 16).

والإعجاز العلمي من أبرز سمات الإعجاز القرآني. فاللون تأثير فسيولوجي ينتج عن وقوعه-أي اللون- على شبكية العين، فهو إحساس وليس له وجود خارج الجهاز العصبي. فللعين درجة كبيرة من الحساسية للّون الأخضر خاصة، وهي تنعدم عند نهايتي الأحمر والبنفسجي. ويمكن للعين أن تميز من 200 إلى 250 لونا.

فنحن نرى الأشياء بألوان خاصة. ويقول العلم أن الأشياء لا لون لها. لكن الأشياء تمتص بعض إشعاعات الطيف وتعكس الأخرى، فيتخذ الشيء لون الشعاع المنعكس على سطح الشيء.

كان سبب تعرض القرآن الكريم للألوان الأساسية (الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق) قد اتضح جليا بعد قرون من نزول القرآن على يد اسحق نيوتن(1642-1727م) حين قام بتحليل الضوء الأبيض عبر الموشور الزجاجي مكتشفا ألوان الطيف السبعة.

ومن العجائب أن لفظ الألوان ومشتقاته ورد في القرآن الكريم في سبع آيات فقط. ويعد هذا دليلا على أطياف اللون السبعة المعروفة المكونة للون الأبيض. بينما وردت كلمة(الأبيض) معرَّفة مرة واحدة للدلالة على أنه مصدر الألوان.

وهذه الموارد هي: البقرة(69) والنحل( 13) والنحل( 69) والروم( 22) وفاطر(  27 و28) والزمر(21).

ومن ناحية عداد مرات تكرار كل لون في القرآن الكريم، فقد ورد اللون الأصفر خمس مرات وورد اللون الأبيض اثنتي عشرة مرة وورد اللون الأسود (سبع) مرات وورد اللون الأخضر ثمان مرات  وورد اللون الأزرق مرة واحدة وورد اللون الأحمر مرة واحدة.

وللألوان في القرآن الكريم معان. فقد وُظّف اللون كثيرا كظاهرة في الصورة الفنية القرآنية لتؤدي دورا لها في الدلالة القرآنية. فقد يأتي اللون للتعبير عن النوع: الأصناف والأجناس؛ أو الهيئة.

فتتجلى دلالة اللون الأخضر الذي حظي بالاهتمام الكبير في القرآن الكريم في لون الشجر والزرع والأرض بعد المطر ولباس أهل الجنة ولون وسائدهم. فهو يمثل الخير والجمال والسلام.

وعلميا ثمة دلالة للفظ(خضر) في مادة اليخضور أي الكلوروفيل، تلك المادة الكيميائية معقدة التركيب الموجودة في النباتات، لاسيما أوراقها الخضراء. وقد ثبت علميا أنها تتكون من أربع مواد: كلوروفيل-أ وكلوروفيل-ب وصبغة الكاروتين وصبغة الزانثوفيل. ويقول أهل الطب إن اللون الأخضر "يجمع الروح الباصر جمعا رفيقا مستلَذا غير عنيف."

وللّون الأصفر دلالات تشتمل على إدخال السرور على الناظر له إذا تعلق بالحيوان، والدمار والإفساد إذا تعلق بالريح، والفناء واليبس إذا تعلق بالزرع. وهو أكثر الألوان إضاءة ونورانية، فهو لون الشمس واهبة الحياة. بيد أن له دلالة تعاكس ذلك، ألا وهي الحزن والهم والذبول والموت والفناء.

وللّون الأزرق دلالات منها ألوان وجوه الكافرين يوم القيامة، وهو يعني احتباس الأوكسجين. وهو لون الوقار والسكينة والهدوء والصداقة والحكمة والتفكير أيضا. وهو يشجع على التأمل والتخيل، كما يخفف من حدة الغضب.

وللون الأحمر دلالات منها: ألوان بعض الجبال وألوان بعض الثمار. ويعد لون القوة والحياة والحركة. ومن الناحية العاطفية، هو لون الحب الملتهب والتفاؤل والشباب. وقد تشعَّبت صفاته: أحمر وأحمر قاني ومدمي وعندم وأسفع وكميت وسواها. وهو يمثل الشر والكفر والقتل والدم أيضا.

وللّون الأسود دلالات: ظلمة الليل ولون وجوه أهل النار والكرب والحزن والهم واليبوسة والفناء. وهو على عكس البياض قمة القتامة والإعتام.

وللّون الأبيض دلالات: الضياء والصباح وإشراق الشمس ولون وجوه المؤمنين يوم الحشر. وهو يقابل اللون الأسود في دلالاته كلها، فيمثّل الأوصاف الايجابية والخصائص المحمودة.

وللألوان حضور في الطب. فكان العلاج بالألوان. فالطب البديل يستخدم تقنية الألوان بعد أن اكتشف العلماء حاجة جسم الإنسان إلى ألوان معينة لتحسين الأداء الذهني والجسدي. ناهيك عن استخدام الألوان في علاج الأمراض المختلفة كالكآبة والتوحد والسرطان وسواها.

يعود الاهتمام بالألوان علاجا للأمراض في أوروبا والولايات المتحدة إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. بيد أن العرب المسلمين قد اهتموا به قبل الغرب بقرون. فمثلا ذكر ابن سينا أن الأحمر يثير الدم والأزرق يهدئه. ويكمن السبب في ذلك في أن لكل لون ترددا مختلفا، مما يؤثر على صحة الإنسان عندما يكون مريضا خاصة.

وتحظى الألوان باهتمام كبير في الأدب. وللألوان دلالات لغوية: الأبيض للماء والشحم واللبن. واستخدم الأسود للدلالة على المبالغة، والأصفر على الذهب والزعفران، والأحمر للمبالغة أيضا، والأخضر على السواد والسمرة، وهكذا.

ولأن الشعراء يختلفون عن غيرهم في تذوق النص القرآني، فقد تأثروا به كثيرا. ومن جملة ما تأثروا به تعاملهم المختلف مع الألوان بما كان لديهم من مخزون قرآني وما كانت لديهم من دراية عميقة بآياته.

 

اسم الكاتب: كريم شلال الخفاجي

دار ومكتبة البصائر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلام| بيروت

الطبعة الأولى 2012 م| 1433 هـ

قراءة

أ د حميد حسون بجية