الخارجون عن النسق: كراتشكوفسكي 1883 - 1951م .. لا بلاغة كبلاغة القرآن ولا تعبير كتعبير العربية

   د.هاشم الموسوي

ان الاستشراق مؤسسة مرتبطة بأجندات كنسية لها مواقف متشنجة من الاسلام والعرب وعموم الامم ، وترجع اصول هذه المؤسسة الى الحروب الصليبية التي احيا اوارها الاستعمار الجديد بما يمتلك من قدرات تمويلية ودعائية وحربية بهدف السيطرة على العالم وارغامه على قبول الثقافة الاوربية الغربية كواقع حال من اجل مسخ ثقافة الشعوب ومحو اديانها وشرائعها تحت حجج ومسميات تقوم على عدم امتلاك هذه الشعوب قابلية ادارة شؤونها لانها تنتمي الى عالم قديم متخلف!!! ومع هذا فلا نعدم مستشرقين وقفوا بجانب الحقيقة حينما اكتشفوها كما هي، فراحوا يتخلون عن المؤسسة التي ينتمون لها ويعملون لصالح الحقيقة وإن عاشوا حياة العوز والكفاف

وإن منهم من لم يرتبط بمؤسسة استعمارية من الأصل، ولا سيما في علاقته مع البلاد العربية الاسلامية كما هو حال الاستشراقين الروسي والالماني مثلا، واللذين جاءت دراساتهما تتسم بالصدق والواقعية وبالتجرد عن النوازع والدوافع المسبقة. ويصدق هذا الكلام على المستشرق الروسي  كراتشكوفسكي 1883 - 1951م 

ويعد كراتشكوفسكي 1883 - 1951م  مؤسس مدرسة الاستعراب في الاستشراق الروسي حيث وضع منهج دراسة تأريخ الأدب العربي في مختلف الأمصار وكان أول من ترجم معاني القران الكريم الى الروسية من اللغة العربية مباشرة ترجمة علمية دقيقة. وما زال الدارسون يلجأون الى هذه الترجمة بالذات لدى التحقق من صحة ترجمة معاني بعض السور. وكتب كراتشكوفسكي حوالي 450 بحثا ومقالة نشرت في مؤلفاته الكاملة.

ولد كراتشكوفسكي فيلنيوس الليتوانية وتوفي في 24 يناير 1951 في لينينغراد الروسية ضمن عائلة لها وزنها في مجال الثقافة والتعليم. فقد كان ابوه يوليان فوميتش كراتشكوفسكي مديرا لمعهد التدريس في فيلنو. واظهر ابنه منذ نعومة اظفاره اهتماما بالثقافات الشرقية وأخذ بدراسة اللغات الشرقية بشكل مستقل. واستمر في هذا الاتجاه عندما دخل كلية اللغات الشرقية في جامعة سانت بطرسبورغ عام 1901. حيث تتلمذ على يد اساتذة وعلماء كبار في مجال الاستشراق والاستعراب والدراسات الإسلامية. وأنهى دراسته فيها عام 1905 بتخصص في اللغة العربية والفارسية والتركية والتترية.

 وحصل على ميدالية ذهبية لمقال كتبه عن الأدب العربي وهو طالب في الجامعة. بعدها جرى إرساله لمدة سنتين من عام 1908 حتى عام 1910 إلى كل من لبنان وسوريا وفلسطين ومصر. وقد لعبت هذه الرحلة العلمية دورا هائلا في حياته العلمية والشخصية اللاحقة. إذ تعرف هناك وأرتبط بعلاقات صداقة مع محمد كرد علي ولويس شيخو وجرجي زيدان وأمين الريحاني وغيرهم. وأخذ بالعمل في التدريس والتدرج العملي إلى أن حصل على لقب بروفيسور وهو أعلى لقب علمي من الممكن أن يصل إليه إنسان ما .

وتعرض أثناء رحلته العلمية الطويلة لدراسة الكثير من شعراء العربية الكبار كأشعار الشاعر العباسي العتاهية والمهري والمتنبي  والبحترياعمالهم في الغزل والهجاء والحماسة ، كما درس الرواية التاريخية العربية ونشرت تحت اشرافه الكثير من المخطوطات المتعلقة بالنثر العربي القديم، وبالقصص والحكايات الواقعية والخرافية التي صاغتها العقلية العربية عبر العصور، ولقد وقف كراتشكوفسكي معظم آثاره العلمية إن لم تقل كلها للآداب العربية وخدمتها وقد اهتم كراتشكوفسكي بالدرجة الأولى بالمخطوطات العربية والكشف عنها وتحقيقها فكان له الفضل في اكتشاف مخطوط (المنازل والديار) للأمير السوري أسامة بن منقذ  وكذلك مخطوط (رسالة الملائكة) لأبي العلاء المعري وقام بنشر كتاب (البديع)، لابن المعتز وغيرها من الكتب الثمينة الأخرى.

وتجلى موقف كراتشكوفسكي من الحضارة العربية الإسلامية في كل ما كتب، وكتابه (مع المخطوطات العربية) يعتبر سيرة ذاتية له، إلا أننا نستطيع أن نعتبره الأثر الفني الذي قدم فيه بتنوع وغزارة مواقفه المختلفة تجاه العديد من القضايا المتعلقة بالشرق العربي الإسلامي، وأنه من خلال هذا الكتاب قدم موقفاً شاملاً من الشخصية العربية الإسلامية ومن الحضارة والتراث العربي الإسلامي، ولن ينسى موقفه وجهوده وآراؤه في بلاغة القرآن وبلاغة العرب على حد سواء

لقد وقف كراتشكوفسكي معظم آثاره العلمية إن لم تقل كلها للآداب العربية وخدمتها وقد اهتم كراتشكوفسكي بالدرجة الأولى بالمخطوطات العربية والكشف عنها وتحقيقها فكان له الفضل في اكتشاف مخطوط (المنازل والديار) للأمير السوري أسامة بن منقذ  وكذلك مخطوط (رسالة الملائكة) لأبي العلاء المعري وقام بنشر كتاب (البديع)، لابن المعتز.

وتجلى موقف كراتشكوفسكي من الحضارة العربية الإسلامية في كل ماكتب، وكتابه (مع المخطوطات العربية) يعتبر سيرة ذاتية له، إلا أننا نستطيع أن نعتبره الأثر الفني الذي قدم فيه بتنوع وغزارة مواقفه المختلفة تجاه العديد من القضايا المتعلقة بالشرق العربي الإسلامي، وأنه من خلال هذا الكتاب قدم موقفاً شاملاً من الشخصية العربية الإسلامية ومن الحضارة والتراث العربي الإسلامي.

إن كراتشكوفسكي من خلال المخطوطات لا يستعيد الماضي فقط، ولا يتعامل معه كحقبه ميته منقطعة عن الحاضر، وإنما يجعل الحياة تنبعث من ثنايا المخطوطات، كما تنبعث من شخصياتها، ضمن ظروفها التاريخية وفي تعامله مع هذه المخطوطات، ينبثق إحساس العالِم العميق بالمسؤولية العلمية التاريخية التي تحتم عليه الموضوعية في التعامل مع التراث الإنساني بغض النظر عن جنس ودين مبدعي هذا التراث. يقول: (فما إن تتذكر هذه المخطوطات أو تهم بالحديث عنها، حتى تهب على الفور سلسلة من الأشخاص من القرون البعيدة الماضية، ومن الأعوام القريبة من حياتك الخاصة

إن كراتشكوفسكي في حديثه عن الشرق المعاصر، الشرق العربي المسلم، يقدم صورة تختلف اختلافاً كبيراً مما قدمه ورسمه الأوروبي الغربي، ففي نفس الوقت الذي تواجد فيه كراتشكوفسكي في مصر وسوريا ولبنان، كان هناك علماء غربيين مثل البلجيكي لامنس، والفرنسي رونزفال وغوتهيل، والإيطالي فيللينو، ومارك ليدزبارسكي، إلا أن الحديث عن شخصية الشرقي المسلم، وتقديمها إلى العالم اختلفت اختلافاً بيناً، بين هذا وأولئك، إذ غالباً كان المستشرقون الأوربيون الغربيون ينظرون إلى الشرق المسلم على أنه مكان للمغامرات والخيال الشرقي، وللمكان الغريب الذي قدموه على أنه مكان أحط قدرا وأقل شأنا من غيره من الأمكنة ولا سيما الأمكنة الأوربية

ولعل أوضح جهوده وأكبرها قيمة تتمثل في موقفه من البلاغة العربية وبلاغة القرآن، إذ يرى كراتشكوفسكي أن الدراسات البلاغية العربية ليست متأثرة بغيرها من الدراسات ولا بالمنهج الهندي أو اليوناني وهو الرأي الذي يذهب اليه معظم المستشرقين ومعظم الطلبة العرب المتأثرين بهم والدارسين تحت إشرافهم، فالبديع القرآني خصوصا والبديع العربي ليس له أصول مشابهة عند الأمم الأخرى وهو قيمة تعبيرية أفرزتها عبقرية العربية بوصفها نظاما لغويا عجيبا ومتكاملا وصالحا لكي يكون النموذج اللغوي الأمثل عالميا.

إن هذا التعامل الحيادي الذي جاءت عليه بحوث هذا المستشرق تنم عن عدالة ونزاهة علمية فهو لم ينظر للتراث العربي كغيره من المستشرقين على أنه تراث مقطوع عن الحاضر الذي هو امتداده الطبيعي، ولا إلى العربية على أنها لغة التعبير الميت والعبارات الجاهزة التي لا تتبدل، بل على أنها اللغة الحية التي تستمد نسغها من حياة القرآن ومن تعابيره الخالدة.

مجلة الروضة الحسينية