ضعف العلاقات الاجتماعية ... آفة خطيرة تهدد المجتمع

في ظل غياب شبه تام من قبل الحكومات ومنظمات المجتمع المدني وعدم ادراك مدى خطورته او التغافل عنه تزداد يوما بعد يوم ظاهرة خطيرة تهدد المجتمعات الا وهي ضعف العلاقات الاجتماعية (التفكك الاجتماعي) والذي يعده البعض من اخطر المشكلات الاجتماعية التي تواجه المجتمع بكل جوانبه لأسباب كثيرة قد لا يكون ممكنا حصرها في تقرير واحد.

أهمية العلاقات الاجتماعية

إن الإسلام حث الانسان على التعاون لما فيه خير الدنيا والآخرة، واوصى الناس كافة عدم اهمال هذا الجانب المهم ودعاهم الى المحافظة على ترابطهم وتماسكهم كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه واله وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

ويتضح من الحديث الشريف مدى اهمية التعاون في الضراء والسراء بين ابناء المجتمع وما لهذا التعاون من فوائد جمة وكبيرة, حيث تَوَصَّل فريقٌ بحثي أمريكي من جامعة "يونغ بريغهام" إلى أنَّ قضاءَ وقتٍ سعيدٍ مع الأهل والأصدقاء، يُقلِّل من خطر الموت المبكر بنسبة 50%، وصرَّح أعضاء الفريق بأن العَلاقات الاجتماعية القوية مفيدة للصحة؛ مثل: التوقف عن التدخين؛ حيث إن ضعف العَلاقات الاجتماعية يُوازي تدخين 15 سيجارة في اليوم، وإن تراجع الحياة الاجتماعية يُعادل معاناة إدمان الخمر، وتأتي أهميةُ العَلاقات الاجتماعية في أنها تزيد في صحة الإنسان أفضل من اللقاحات التي تمنع الإصابة بالمرض؛ ذلك أن الإنسان خُلِق كي يعيش مع غيره، وأن عزلته عن الناس تُسبِّب له أمراضًا نفسية وصحية.

دور الاسرة في التماسك الاجتماعي

ومما لا شك فيه ان للأسرة دورا محوريا مهما في هذا الخصوص بحسب ما ذهب اليه المختصون في مجال علم الاجتماع بان" للأسرة دورا كبير في تماسك المجتمع وتقويته لكونها أهم النظم الاساسية التي تؤثر في تشكيل البناء الاجتماعي وخلق مناخات إنسانية مناسبة وملائمة للفرد لممارسة دوره والانتقال في مراحل النمو الطبيعية الى سن الرشد والكمال وإشباع حاجات الفرد المادية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية والعقائدية" ويؤكدون بأنه" لا يمكن لمجتمع أمياً أو مريضا صحيا أو مشوها ثقافياً أو فقيرا اقتصاديا أن ينهض بعملية البناء الحضاري" مما يدل على ان كل المؤثرات تلعب دوراً كبيراً في وحدة البناء الحضاري لأي مجتمع.

واسلاميا تقوم الاسرة بدور كبير في غرس المبادئ والقيم التي اوصانا بها الاسلام لتعلمها وتطبيقها عمليا، فالأسرة تؤدي تبدأ أولا بتقوية اواصر وعلاقات ابناء الاسرة الواحدة وهذا بدوره يؤدي الى تماسك المجتمع وبنائه على الاسس والقيم الاسلامية وكلما كان سلاح التنشئة قويا وسليماً ومعافى كلما أصبح بناء المجتمع أكثر حضارية.

اسباب التفكك الاجتماعي

ان التفكيك الاجتماعي الذي تعاني منه كثير من المجتمعات له اسباب عديدة ادت بشكل غير مباشر الى انتشار هذا المرض الخطير الذي يهدد المجتمعات وينذر بظهور مخلفاته السيئة ومشكلاته العديدة، وقد لخص قسم من الباحثين الاسباب بما يلي :

أولا: البطالة

فقد عدها الباحثون أحد الاسباب التي تؤدي الى ظاهرة التفكك الاجتماعي كونها ظاهرة خطيرة تهدد أمن المجتمع ووفقاً لدراسة إحصائية في الولايات المتحدة تناولت فيها معدلات الطلاق والبطالة بين عامي 1960 و 2005. بينت فيها ان البطالة تتسبب في فقدان العديد من العائلات لمعيليها مما يتسبب بارتفاع معدل الخلافات العائلية وحالات الطلاق والتفكك العائلي والمجتمعي بشكل عام. وان هذا التفكك الاجتماعي بدوره يدفع بالعديد الى الاتجاه نحو عالم الجريمة ويزيد من خطورة الأثر الأمني للبطالة.

ثانيا: الفقر

 تعاني بعض البلدان من الفقر الذي يؤثر سلبا بشكل مباشر على التماسك الاجتماعي لجعله الفرد غير قادر على توفير مستلزمات الحياة وبالتالي عدم مقدرته على تطوير اقتصاده وعدم اندماجه في المجتمع جراء ذلك,  ويرجع محللون ذلك إلى أن المواطن الفقير غير قادر على المساهمة الجادة في تحقيق التنمية المجتمعية أو الاقتصادية كما يشكل تهديداً للاستقرار الاجتماعي في البلاد.

كما أن الشخص الفقير سيقع تحت ضغط الظروف المعيشية والحياتية وبالتالي يصبح مجبرا على عدم التواصل مع الاقارب والأصدقاء ويلجأ الى قضاء اكبر وقت في معزل عن المجتمع مما يؤدي الى ضعف علاقاته الاجتماعية نتيجة انعدام التواصل.

ثالثا: وسائل الإعلام وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)

 يقضي كثير من الافراد أوقاتا طويلة على مواقع التواصل الاجتماعي مما يجعلهم في عزلة اجتماعية توثر فيما بعد على تنشئتهم أولا ومستقبلا على سلوكهم, وفي هذا الشأن تقول الدكتورة سميرة موسى أستاذة الإعلام في جامعة كفر الشيخ بمصر على موقع نون بوست : ان نشر الأخبار المغلوطة وغير الصحيحة والكاذبة أحيانًا في مواقع التواصل الاجتماعي ، وفي ظل تراجع مستوى الوعي الكافي تصبح هذه الأخبار محل ثقة لكثير من الرواد مما يترتب عليها بناء رأي عام غير حقيقي مبني على معلومات مغلوطة بما يهدد الأمن والسلم المجتمعي, يضاف إلى ذلك المحتوى الهزيل، الذي يقدم من قبل بعض المواقع، والذي لا يهدف إلا للإثارة وجلب أكبر عدد من المشاهدين، والضحية هنا الأسرة، التي تنشب فيها المشاكل نتيجة للتعلق بمشاهدة هذه المواقع، ونسيان الفرد مسؤولياته الاجتماعية تجاه الأسرة، بالإضافة إلى الجفاء الذي يقع جراء هذه الملهاة.

رابعا: الابتعاد عن القيم الاسلامية

يرى الباحثون ان ابتعاد الفرد عن القيم الانسانية التي اوصانا بها ديننا الحنيف وخاتم الانبياء واهل بيته الكرام عليهم السلام وصحبهم الاخيار(رضوان الله تعالى عنهم) كالابتعاد عن المنكرات التي تشوه السلوك وتقضي على السمعة الطيبة، وترك الممنوعات التي تؤذي الجسد والعقل , الامر الذي يولد نفورا مجتمعيا وضعفَ او انهاء العلاقات الاجتماعية بين ابناء العشيرة او المنطقة بل وحتى الاهل في بعض الاحيان، - على سبيل المثال- فإن المخدرات تتسبب في تهديم للعلاقات الاجتماعية، بسبب ابتعاد المدمن أو المتعاطي عن جميع من حوله ليرافق أصدقاء المخدرات، ويبتعد الناس أيضاً عن المدمن بسبب خوفهم من تصرفاته غير المسؤولة وسمعته السيئة, وكذلك حال لاستخدام السيئ لشبكات الانترنت فيقضي الفرد معظم وقته فيكون في عزلة اجتماعية بلا شعور, فعلى المجتمع عدم الابتعاد عن القيم الاسلامية وإطاعه الله ورسوله وأهل بيته عليهم السلام ,فيقول الله سبحانه وتعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ سورة التوبة: الآية 119
 

أساليب القضاء على المشكلة

ان من اهم الحلول لهذه المشكلة( التفكك الاجتماعي)  التي تواجه المجتمعات هو اعتماد مبدأ الحوار والتسامح والتسلح بمبادئ الاسلام في تعاملنا مع الاخرين وكذلك توفير البيئة المناسبة لأفراد الأسرة كونهم عماد المجتمع فكلما كانت الاسرة تعتمد على ثقافة الحوار في التعامل فلا شك أن تنتشر هذه الثقافة في عموم المجتمع.

وبهذا الخصوص قال ممثل المرجعية الدينية في كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي خلال خطبة الجمعة من الصحن الحسيني الشريف في   8/ جمادي الاول1439هـ الموافق 26/1/2018م: " ان الاسلام حرص على اقامة الروابط والعلاقات الاجتماعية المتماسكة بين المؤمنين المنتمين اليه لكي يحافظ على اقامة علاقات اجتماعية متماسكة.. ومن اجل ان يحفظ للمجتمع تماسكه وقوته حتى يستطيع ان يواجه المشاكل الداخلية والخارجية والتحديات والمصاعب التي يمر بها الفرد والمجتمع.. وفي نفس الوقت يعطي القدرة للفرد والمجتمع ان ينهضا بأعباء التنمية والتطور والاستقرار والازدهار، في نفس الوقت حذّر من المخاطر الكبيرة في الدنيا والاخرة ومن التحديات والخروقات وعدم الالتزام بالمنظومة الاجتماعية منظومة التعايش الاجتماعي..

أضاف ان: كل واحد منكم اذا واجه مشكلة نزاع في داخل البيت او الاسرة او داخل العشيرة او بين عشيرة واخرى او بينك وبين شخص آخر تجاوز عليك وغير ذلك.. لابد ان يكون هناك ضبط لردود الفعل ويتعامل بهدوء مع مثل هذه الحالات.. فاذا كان رد الفعل والتعامل برد فعل عنيف فان ذلك سيؤدي الى عنف مقابل فالآخر يرد فعنف اكبر ثم يأتي رد من الاول بعنف أكبر وهكذا تتحول الحالة من أمر بسيط الى حالة من الصراع العنيف، لذلك حثّ الاسلام في مثل هذه الحالات على ان يكون التعامل بضبط العواطف والانفعالات والتعامل بالأسلوب الهادئ مع الاختلافات والمشاكل والنزاعات مع الاخرين من اجل الحفاظ على التماسك الاجتماعي .

وبيّن سماحته أن: الحوار من أهم الاساليب وافضل الاليات للتعايش الفكري والاجتماعي الايجابي، ومن الاساليب المهمة والفعّالة في معالجة واصلاح العيوب والزلاّت والعثرات وتصرفات الاخرين هو النقد البنّاء.. فاذا شاهد الاخرون عند احد الاشخاص زللا او خطأ عليهم ان يؤشروا له ويبينوا له خطأه ولكن على ان يكون هذا التأشير موثوقاً ودقيقاً لا ان يتسرع الانسان ويأخذ ويحكم وفق ظواهر الامور على الاخرين.. فلا بد ان يكون النقد بنّاءً ولابد ان يكون التأشير موثوقا به ومتأكدا منه.. فضلا عن طرح النقد بأسلوب لا ينتقص من الاخرين ولا يحط من شأنهم العلمي والاجتماعي وهذا من الاساليب الحيوية لتنبيه الاخرين على عيوبهم وزلاتهم وعثراتهم وإصلاحها.

تفعيل عناصر الرباط الاجتماعي

كيف نعالج التفكك في مجتمعنا العراقي؟ سؤال يجيب عنه الباحث في علم الاجتماع الدكتور شاكر حسين الخشاني في مقال نشر بصفحته الشخصية ( الفيس بوك) يقول فيه: من البديهي أنَّ علاج أي مشكلة اجتماعية ربما يتحقق بإزالة مسبباتها , ومن ثم معالجة تأثيراتها التي وقعت , وإن من أبرز أسباب التفكك الاجتماعي في المجتمع العراقي أن عملية التغيير التي حدثت كانت مركبة شملت الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية , أضف إلى ذلك كانت عملية متعجلة وتداخلت معها عملية الاحتلال ومقاومة الاحتلال ..., فلم يُحكَم التخطيط فيها لكل جوانبها , فالمسببات أخذت بالمجتمع فلا سطوة ولا سبيل لنا عليها , وآثارها هي الأخرى تفاقمت بسبب غياب العلاج المبكر , فلم يبقَ من حلّ إلا معالجة الآثار أو تخفيف وطأتها.

وأضاف: إنَّ التفكك الاجتماعي لا يعالج إلا بإصلاح المجتمع , وإصلاح المجتمع ذو التركيبة الفسيفسائية يجب أن تمهد له حملات توعية وتثقيف في كل الأنشطة وعلى كل المستويات ويدرك خلالها كل فرد بالمجتمع أن الديمقراطية إذا كانت تمنح الأكثرية حق السلطة فهي في نفس الوقت تجبرهم على حماية الأقليات وتأمين حقوقهم كاملة غير منقوصة لكي يُضمن تقبلهم للجديد ومغادرتهم القديم , كما يجب أن يرتكز أي إصلاح للمجتمع على التصالح السياسي الصادق والنزيه وليس تصالحاً شكلياً , ثم يجري التصالح الاجتماعي بدءً بموضوع القيم بأن يتم التوافق على إبقاء أو تعديل أو إعادة إقرار القيم والمعايير والقواعد وتحديد هوية الثقافة العامة وموقع الثقافات الفرعية منها والتوافق على تشريع أعراف للمتغير من القيم لتستعيد قوة الإلزام أهليتها وفاعليتها , ثم تفعيل أهلية عناصر الرباط الاجتماعي الأخرى , كالأدوار الاجتماعية التي تتطلب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب , والاتحادات الاجتماعية التي تجعل الأفراد يحكمهم وعي مشترك وتأثير متبادل وإحساس بالعضوية , فالسلوك الاجتماعي لا يوجد بين البشر إلا داخل الأطر التي تشكلها الاتحادات الاجتماعية , والتفاعل الاجتماعي بآلياته التفاعلية هي التي بواسطتها يصبح الأفراد أجزاء فاعلين في النظام الاجتماعي , ثم تجري المصالحة الاقتصادية بتشريعات عادلة بتوزيع الثروات لتحقق تنمية اجتماعية عادلة , وتدعيم اقتصاد الأسرة اللبنة الأساس في المجتمع والمنتج للفرد أداة البناء.

وأكد أن: سلامة الأسرة وتأمين متطلباتها واحتياجاتها بما يحقق طمأنينتها ورفاهيتها وأمنها , كل ذلك يعتبر محورياً ليس بالجانب الاقتصادي فقط إنما ينعكس على الجانب الاجتماعي أيضاً , , وآلية هذه الإصلاحات لا تتم عشوائياً إنما بدراسات ميدانية على يدّ متخصصين لتدعم مقررات جلسات التصالح , ولا يستغرب البعض إذا قلنا أن الإصلاح قد يستغرق بضعة سنين.

اعداد: محمود المسعودي