العفة دار عز وحصن أمان

هيلين عبد الله

 بها يسمو الفرد وتصان الأسرة، ويتجنب المجتمع مكابدة الآلام والمشكلات المرة، المتأتية من التهتك وإطاعة النفس الأمارة، ما رفرفت على بيتٍ إلا وعاش أهله السلام والهناء، ولا استوطنت في قلب إلا وكان صاحبه من أهل السمو والارتقاء..

 خُلقٌ إيماني رفيع يدفع إلى غض البصر وتقييد النظر، وطاعة الله تعالى والإلتزام بالأمر واجتناب البغي والمنكر...

 إن حل في القلب تُرجِم بالأفعال والسلوكيات، وانعكس أثره على الحركات والسكنات، وتحقق الفوز من مرارة السقوط في وحل الفاحشة والموبقات، وضمن صاحبه السلامة من ضنك العناء والآهات والحسرات...

تَرَفُّعٌ عن السفاسف والدنايا، وَتَطَلّعٌ إلى رضوان رب البرايا...

 فِرارٌ من شِباك المعصية المنصوبة على طريق البشرية باحترافٍ عال، وإسدال للستار عن كل ما يدنس النفس ويبعدها عن ساحة الجمال والجلال، إنها العفة التي ذكرها القرآن الكريم وحفلت بها كلمات المعصومين عليهم السلام وبينت أنها من حميد الخصال التي توجب الرقي في مراتب العروج والكمال.

ولو تأملنا في الآيات والروايات، وما حفلت به سجلات الحياة، لرأينا أن لهذا الخلق النبيل آثارا جمة يجنيها الفرد والمجتمع على حد سواء، من أبرزها:

١) استحقاق ما وعد به الملك العلّام من الفضل والعطاء لمن استقام، من جميل الثناء وحسن الجزاء، وإذا كان الإنسان يفرح بمدح الناس وثنائهم فكيف يكون فرحه بمدح خالق الناس وبارئهم؟!

تعالوا لنرهف السمع والقلب لكلام الله تعالى في كتابه الكريم: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين"، ثناء لا يعدله أي ثناء، وشهادة من رب الأرض والسماء، بأن  العفيف مؤمن مفلح، وهل يمكن للمرء المرور على هذه الآية دون أن يهش لها ويبتسم ويفرح؟!

وفي آية أخرى يقول تعالى: " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ....وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا"، فما أروع هذه البشريات التي يزفها القرآن للعفيفين والعفيفات، ولا عجب فقد ورد في الروايات عن أمير المؤمنين عليه السلام: "مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ".

٢) طمأنينة النفس وانشراح الصدر: فالعفيف دائما يشعر بالراحة والطمأنينة، وترفرف على قلبه حمائم الهدوء والسكينة، فلعفته وطهارته يفيض الله تبارك وتعالى على قلبه النور والسلام، وينجيه من كرب الهموم والآلام، الذي لا شك يكابد أهواله كل من حاد عن طريق العفاف والفضيلة، وانزلق في مستنقع المعصية والرذيلة، فالخالق سبحانه يعلم ما خلق وما الذي يصلحه ويسعده، وإن قرر الإنسان الانحراف عن مساره الذي أراده الله تعالى له، فسيكابد المشقة حيث ولى، وسيبرز أثر الانحراف في حياته ويتجلى..

فغير العفيف وإن نال لذة جراء انحرافه فهي لا تعدو كونها لذة آنية وقتية، يغرق بعدها في دوامة الآلام النفسية والحسرات المتتالية، أما العفيف فإنه يجد من لذة النصر على الوسوسة والشيطان والمنكر، ما لا يمكن أن يتصوره أي منحرف من البشر!

 فحال الإنسان كحال القطار الذي صمم ليسير على القضبان، فهو متى انحرف عن المسير لأي سبب كان، فإنه لا يمكن أن يستمر في السير، وسيكون الدمار مصيره المحتوم في الأخير، يقول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام:" مَنْ أُتْحِفَ الْعِفَّةَ وَالْقَنَاعَةَ حَالَفَهُ الْعِزُّ".

 

٣) نيل الثناء الطيب والسمعة الحميدة: فالعفيف يحظى بمحبة الناس واحترامهم، وينال ثقتهم وتقديرهم، بخلاف من كان غير ذلك فإنه لا ينظر إليه بثقة واحترام، وإن بدا للمبتلى غير ذلك وحاك له الشيطان من لباس الأوهام ما يدفعه للسقوط أكثر في وحل الانحراف والآثام، وهذا ما ينبغي أن نوصله إلى أولادنا وبناتنا لا سيما في الجامعات، فإن التهتك والميوعة وبعض الأفعال والسلوكيات هي من خدع إبليس وجنوده من الإنس والجن ليوهموكم أن هذا هو الطريق إلى الزواج وإنشاء بيت سعيد دافئ، والحظوة بسكن أسري هانئ، والحقيقة أن ما كان أساسه باطلا فهو لا يدوم طويلا، ولن يكون عيشه كريما نبيلا، فالأسرة تحتاج إلى أسس رصينة وأركان متينة، وهذه لا يمكن أن يتحقق في ظل التحرر من الضوابط الشرعية وتعدي الحدود الإلهية في التعامل مع الجنس الآخر تحت أي مبرر أو حجة واهية؛ لذا فالحذر الحذر من الخدع الشيطانية التي باتت تهدد ركائز الحياة الاجتماعية، وتعصف بمستقبل الأسرة التي أراد الله تعالى لها أن تكون أسرة ربانية، تعتمد المنهج الحق في الاختيار، وتنتهج السبيل القويم الذي يؤدي إلى الهناء والدوام والاستقرار.

٤) السلامة من العواقب المترتبة على عدم العفة: فمن عف عفت محارمه والجزاء من جنس العمل، ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "كانت امرأة علي عهد داود يأتيها رجل يستكرهها على نفسها فألقى الله عز وجل في قلبها فقالت له: إنك لا تأتيني مرة إلا وعند أهلك من يأتيهم قال: فذهب إلى أهله فوجد عند أهله رجلا فاتى به داود (عليه السلام) فقال: يا نبي الله وجدت هذا الرجل عند أهلي فأوحى الله إلى داود قل له: كما تدين تدان"، ويا له من أمر مرعب!

فالمرء الذي يفتقد العفة ويتجرأ على المنكر ويجاهر بارتكاب الآثام ، يمهد السبيل أمام أهله وذريته لسلوك طريق الانحراف والحرام؛ فهو لن يكون قدوة لهم في العفة والصلاح، ولن يستطيع حملهم على الطهارة والفلاح، يتخبط في تربيتهم، ويجانب الصواب في تقويم سلوكهم في سني حياتهم، ولربما حملهم بسوء فعله وخطأ منهجه على ارتكاب المنكرات ومقارفة السيئات بكامل الحرية والاختيار، فتكون النتيجة الوقوع في الخزي والعار، ولو استمر الحال هكذا ولم يلجأ المذنب الى التوبة والاستغفار فستترتب هذه الآثار ويكون المصير إلى النار.

وما هذا إلا غيض من فيض ونزر يسير مما جاء في العفة وأهلها من كلام كثير، يجعل المرء يفكر ألف مرة عندما يقدم على أمر أو يضع قدمه في طريق أو يوجه جوارحه إلى اتجاه، فلا يخطو خطوة إلا بعد أن يطمئن جيدا لسلامتها ويحرز رضا مولاه جل في علاه..

 

مجلة الروضة الحسينية