أثر الحكم الاسلامي في تطور الاقاليم الادارية في صقلية

الحلقة (8)

د. منال حسن عكله

كانت العديد من الاقاليم الادارية في صقلية قبل الفتح الاسلامي وحكم الدولة الشيعية لها تعيش في حالة من التخبط الاداري والظلم والقسوة الاجتماعية، ويمكن التعرف على العوامل التي أدت الى تطور تلك الاقاليم من خلال المعطيات التالية:

1-تغيرت التركيبة الاجتماعية للسكان منذ الحكم الاسلامي الشيعي لصقلية اذ سبب استقرار الوضع السياسي في الجزيرة وامتلاك الجزيرة الكثير من الثروات والارض الخصبة الى جذب اعداد كبيرة من سكان افريقية والاندلس والمشرق للسكن في الجزيرة والاختلاط مع سكانها الاصليين والتزاوج معهم .

2-وقوع صقلية الاسلامية على البحر المتوسط او ما كان يسمى بحر الروم، الذي يمتد من اراضي مصر حتى ينتهي الى ارض الشام ويمتد على البحر المحيط وهي آخر بلاد الاسلام على هذا البحر من جانب بلد الروم، من ذلك نستدل بان المناطق الاوربية التي تشرف على هذا البحر كثيرة وواسعة ووجود مراكز استيطانية واسعة عليها هذا الموقع الستراتيجي الجغرافي المهم جعلها حلقة وصل بين الشرق والغرب، وادى الى تطور وازدهار الحركة التجارية في كلا الطرفين، واستقرار الوضع الاقتصادي في جزيرة صقلية التي زاد الطلب على بضائعها في مختلف انواعها، من الشرق مما ادى الى ارتفاع القيمة الشرائية لبضائعها، وبالتالي تحسن المستوى المعيشي لأفرادها.

3-الاعتدال في درجات الحرارة وتلطف الجو، وغزارة الامطار في جزيرة صقلية، فضلاً عن الاستقرار السياسي في فترة حكم الشيعة لصقلية الاسلامية، جعلها محل جذب واستقطاب لمعظم رموز الحر كة الفكرية سواء في المشرق او افريقية او الاندلس فأصبحت صقلية ملاذاً لكل العلماء والادباء والشعراء يتغنون بجمال طبيعتها ويتغزلون بمعشوقاتهم، ومع مرور الازمان استمرت صقلية لأكثر من قرنين على هذا المنوال. فقد ورد:"ان تغير حالات الهواء هو الذي يغير حالات الانسان، مرة الى الغضب، ومرة الى السكون، والى الهم والسرور، واذا استوت حالات الهواء استوت حالات الناس وأخلاقهم. ان قوى النفس تابعة لمزاجات الابدان، ومزاجات الابدان تابعة لتصرف الهواء، اذ برد مرة وسخن اخرى خرج الزرع نضيجاً ومرة غير نضيج، ومرة قليلاً ومرة كثيراً، ومرة حاراً ومرة بارداً، تتغير لذلك صورهم ومزاجاتهم، واذا اعتدل الهواء واستوى خرج الزرع معتدلاً، فاعتدلت بذلك الصور والمزاجات".

4-اسهمت صقلية على الرغم من كونها جزيرة صغيرة بجانب اسبانيا الواسعة،في نقل الحضارة الشرقية الى الغرب، وان يكون لها نصيب غير خفي في ايقاظ اوروبا في العصر الوسيط من سباتها، وان تكون معبراً في نقل جزء كبير من حضارة الشرق الى الغرب.

5-لما دخل النورمانديون الى صقلية اندهشوا من رقي الحضارة التي نقلها اليهم المسلمون قبلهم، الذين عملوا على ترقيتها في كل جوانب الحياة، حتى اصبح الفارق بينها وبين الدول التابعة للدولة البيزنطية كبيراً جداً، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الاراضي وزرعها، وادخلوا انواعاً من النباتات ومن الحيوانات لم يكن للاوربيين بها عهد ولا علم، الى جانب تطور الجانب الادبي والفني الى درجة الرقي، وانشاء حلقات التعليم في المساجد التي تضمن الكتابة والقراءة وحفظ القران الكريم فضلاً عن دراسات عليا كثيرة دينية وادبية وعلمية، حتى اصبح الفرق جلياً وواضحاً بين ما ترك عليه البيزنطينيون صقلية ومابين دخول النورمانديين بعد الحكم العربي الاسلامي.

6-الحضارة العربية الاسلامية ظلت بادية على صقلية قروناً عديدة حتى بعد انتهاء الحكم الاسلامي عليها،واستمرت المظاهر العامة للحياة العربية بادية على صقلية، الى الحد الذي اتهم به بعض ملوك النورمانديين بانهم اعتنقوا الاسلام لشدة تمسكهم بالعادات والنظم الاجتماعية والادارية الاسلامية والعربية.

7-ان من مقومات الحياة الاقتصادية في اوربا هي الزراعة والصناعة والتجارة، اذ توفرت الظروف الملائمة لها من موارد مائية وتربة خصبة ومناخ ملائم ويد عاملة زراعية وبعض هذه المقومات كانت شحيحة قبل الحكم الاسلامي الشيعي لصقلية، ولما حكم العرب صقلية الاسلامية اصبحت صقلية تمتاز بانتاج زراعي واسع بسبب اتباع النظام الاداري واساليب زراعية جديدة فضلاً عن محاصيل زراعية جديدة ادخلها العرب الى صقلية جعلها تصدر مايزيد عن حاجتها الى الدول الاخرى، وهذا يدل على نشاط تجاري واسع ساعد على اتساعه شبكة الطرق التجارية البرية والبحرية الذي يربطها بالدول الاخرى.

8-لم يكن المجتمع الصقلي قبل الفتح الاسلامي لها مجتمعاً مضمون الحرية كما كان اغلب سكانه يتكونون من الاغريق والبيزنطينيين والايطاليين، فضلاً عن اليهود الذين كانوا منبوذين من قبلهم (ولكن هذه التركيبة السكانية سرعان ما اختلفت لما فتح العرب صقلية اذ اصبح النصارى والعرب المسلمون يشكلون غالبية السكان في الجزيرة عندما كانت صقلية جزيرة عربية، لاسيما بعد ان كانت منفى للمنبوذين والمجرمين والعساكر المتمردين، في فترة حكم الاغالبة، فقد ورد ان مسينا كان يقطنها من المسلمين وحدهم في سنة (453هـ/1061م) إحدى وستون والف، فهو لم يذكر كلمة واحدة عن مسيحي صقلية قبل وصول النورمان إلى الوادي الممتد بين جبل اتنا وسلسلة جبال الابنين.

9-ازدواجية روجار: على الرغم من ان روجار الاول والثاني اعتمدا على العرب بشكل كبير في ادرة شؤون الدولة الا ان ذلك كان له دوافع عدة لا تعود الى حاجة روجار - الحقيقية-للعرب بل تعود ايضا الى ان روجار لم يكن يملك جيشاً كبيراً يستطيع السيطرة به على الجزيرة ومع كل هذا فان روجار الاول لما احتل الجزيرة لم يترك للمسلمين فيها حماماً ولا دكاناً ولا طاحوناً ولا فرناً، وهذا يأتي من رغبة روجار في السيطرة الكاملة على الجزيرة وان لايكون فيها عربي على المدى البعيد .

10-أن معظم مدن صقلية كان الإنتاج الاقتصادي فيها يزيد عن حاجة مدنها سواء كان الثروة الزراعية أو السمكية أو حتى الصناعات مما ادى إلى قيام علاقات تجارية مع البلدان الاخرى لكثرة الإنتاج فيها وبهذا نشطت التجارة الخارجية فيها والعلاقات التجارية والسفن التجارية الواردة إليها ،مما ادى إلى ازدهارها التجاري سواء في فترة الحكم العربي الشيعي أو في فترة الحكم النورماندي ولدينا إشارة إلى ان ابي القاسم العلوي كان يمارس التجارة لتسديد المبالغ التي فرضها عليه غليام) وهذا يعني ان مهنة أو مزاولة التجارة كانت تدر أرباحاً طائلة لصاحبها.

11-التنوع في ثروات صقلية الزراعية والحيوانية والصناعية والتجارية كانت هي السمة الاساس التي اتسمت بها صقلية كما ان تنوع الطرق التجارية فيها الداخلية والخارجية ساعد على تطور الحياة الاقتصادية في صقلية الاسلامية والنورماندية على حد السواء كما ادى هذا بدوره الى تطور التعامل النقدي على مختلف العصور.

12-احدث العرب تغيراً مهما في نظام ملكية الارض وتوزيعها. والمفردات العربية الكثيرة في اللهجة الصقلية دليل على مدى اهتمام العرب بالزراعة. فقد ادخل العرب-كما فعلوا في الاندلس - مجموعة من النباتات الجديدة،كما قاموا بتوسيع رقعة الاراضي الزراعية واستخدموا وسائل الري كما كان للشريعة الاسلامية دورها في التشجيع على الاستثمار في الزراعة المروية.

13-اتسع نطاق التجارة عند المسلمين اتساعاً لم يبلغه شعب اخر،فاخذت قوافل التجار المسلمين تنتشر في القسم الاعظم من العالم وخاضت سفنهم مسالك البحار والمحيطات وازدهرت على ايديهم الطرق التجارية بين بحر الصين واسيا الوسطى وسواحل بحر البلطيق والاندلس وشواطئ المحيط الاطلسي والبحر المتوسط وساحل افريقيا الشرقي وجزر المحيط الهندي وغيرها.

وقد كانت تجارة العرب تصل الى اقصى شمال اوربا وبسبب الارباح الطائلة التي كانوا يحصلون عليها قد اهتموا ببلاد اوربا ومارسوا تجارتهم معها وبالتالي دونوا معلومات علمية عنها.فدون بعضهم ملاحظات ومذكرات عما شاهدوه وعرفوه وسمعوه عن البلاد التي كتبوا عنها، فتعرفوا على الاحوال الطبيعية والبشرية والاقتصادية في اوربا. ولكننا بذات الوقت يجب ان لا ننتظر من هؤلاء التجار ان يكتبوا لنا بدقة ومعرفة علمية لان غالبيتهم لم يكونوا مالكين للثقافة والعلم الذي يؤهلهم لتدوين المعلومات بدقة وبتفصيل.

14-في نهاية هذا الفصل لا يسعنا إلا ان نقول ان ان الشعوب والقبائل الاوربية التي احتكت بالعرب المسلمين او تبنت عقيدتهم وحضارتهم،كانت قد اصبحت امماً متحضرة وما صقلية الا واحدة من تلك المناطق الاوربية التي مثل الاندلس ومالطة فصقلية التي لولا حكم العرب لها لمدة اكثر من قرنين ونصف لما اصبحت مركز اشعاع حضاري في العالم الاسلامي والاوربي.

15-لقد تمتعت صقلية في ظل الحكم الشيعي لها، بحكم اسلامي مزدهر، وانتشر المسلمون فيها، وانتشرت معهم الحضارة الاسلامية في مدنها المختلفة. وقد اشاد الرحالة والجغرافيون المسلمون بما كان في هذه المدن من مساجد وقصور وحمامات وبيمارستانات واسواق وأسوار وقلاع ومراسٍ... الخ، الى جانب الصناعات التي ادخلوها كصناعة الورق والحرير والسفن والفسيفساء، ذات الرخام الملون كما استخرجوا المعادن المختلفة كالكبريت والنفط والنشادر والرصاص والحديد... الخ وشاركوا في ضروب الزراعة والتجارة، ونشر لغتهم العربية وعاداتهم وثقافتهم بين الخاصة والعامة.

16-يرجع الفضل الى العرب المسلمين في ادخال انظمة الادارة المحلية في صقلية وايطاليا، فبالرمو مثلاً، كانت تحوي على هيئة بلدية تعرف بالجماعة وقوامها رؤساء العائلات النبيلة والفقهاء والاغنياء ووجوه ارباب الصنائع، وكانت تسهم بالمال وبالعمل في انشاء واصلاح الآبار والصهاريج والمساجد، وتساعد المعوزين من المسافرين.