الخارجون عن النسق.. آنا ماري شيمل.. الاسلام دين الانسانية

د. هاشم الموسوي

إن الاستشراق كمؤسسة معرفية لم يكن خاضعا بالمرة للّعبة الاستعمارية الغربية وأحابيلها، فقد خرجت مجموعة كبيرة من المستشرقين عن النسق الفكري المتحكم في العجلة الاستعمارية، وباتت هذه المجموعة تحاول الاشتغال لمصلحتها الخاصة ولحبها للحقيقية وحدها متحملة بذلك مواجهة ظروف العيش الصعبة في ظل الابتعاد عن الرابط الاستعماري (الحكومي)  الذي يمول أنشطة الاستشراق في أوربا ويغدق العطاء للمشتغلين في هذا المجال على ضوء الاهداف والغايات المرسومة سلفا، ومن خير الأمثلة التي تؤكد هذه الحقيقة هو ما سنعرضه من سيرة ومواقف الكاتبة المستشرقة آنا ماري شيمل التي عاشت مخلصة للحقيقة وحدها لا تجامل دونها ولا تهادن في سبيلها أحدا.

ولدت شيمل في ألمانيا يوم ٧ أبريل عام ١٩٢٢ ميلادي، وقد نشأت وترعرعت في بيئة ثقافية مسيحية، ثم بدأت حياتها الدراسية منذ نعومة الأظفار، فصرفت عنايتها الخاصة إلى اللغة العربية والثقافة الإسلامية التي عشقتها مبكرا. ثم التحقت بجامعة برلين، ودرست العلوم الإسلامية، والتاريخ الإسلامي وفنونه العديدة، واطلعت على الدارسات التركية، وحصلت على درجة الماجستير عن رسالتها الموسومة : (الخليفة والقاضي في مصر الفاطمية والمملوكية) ثم أنجزت درجة الدكتوراه في الاستشراق، وهي في سن التاسعة عشر من عمرها عن أطروحتها الموسومة : (بنية الطبقة العسكرية في الحقبة المملوكية المتأخرة)

وخلال فترة رقيها المعرفي كتبت مجموعة كبيرة من الكنب من اهمها: الجميل والمقدس، وكتاب الأبعاد الصوفية في الإسلام وكتاب تاريخ التصوف، وكتاب إن محمدا رسول الله، وكتاب ليس كمثله شيء، فضلا عن كتابتها لعشرات البحوث والدراسات التي غلب عليها الجموح نحو التصوف الاسلامي كتخصص معرفي.

أما أهم كتبها الذي توجز من خلاله فلسفتها الخاصة ورؤيتها للاسلام كنظام كوني شامل وكدين اعتنقته بكل قناعة واعجاب فهو كتابها المعنون (الاسلام دين الانسانية) الذي تعرضت بسببه لهجمة اعلامية عنيفة وحجبت عنها جائزة حكومية رشحت لها لانها حين سئلت عام 1988م عن الفتوى التي اطلقها آية الله الخميني على الكاتب (سلمان رشدي)الذي أهان رسول الاسلام ونبي المسلمين في روايته ايات شيطانية فقد أجابت : لا شك أن عقوبة الاعدام فظيعة جدا بحقه، لكن الأفظع منها هو أهانة أمة بكاملها، وهو ما يؤكد أباطيل الحرية الاعلامية والفكرية التي يتشدق بها الغرب عبر مؤسساته المرتبطة بالصهيونية وبمعاداة العرب والمسلمين!!

ولا شك فإن كتابها المذكور صدى لافكارها حول الاسلام منذ نشأته وحتى يومنا هذا، وهي العالمة والمتخصصة بالاستشراق والعرفة المطلعة على تاريخ الاسلام وشؤون المسلمين.

وقد حاولت هذه المستشرقة ان تبين لحظة معرفة الغرب بالاسلام وان تفند مخاوفه التي سببها دخول المسلمين الى اسبانيا ونشر الاسلام فيها، مبينة خطأ تصورات الاوربيين عن المسلمين عندما اتهموهم بعبادة محمد، ورموا المسلمين بأنهم ينوجهون الى تمثالهم الذهني عندما يتوجهون للصلاة، وترى شيمل أن جهل الأوربيين الحقيقي بالاسلام يعود الى جهلهم باللغة العربية التي لو تعلموها وقرأوا بها الاسلام فقها وفكرا وتشريعا باللغة التي قرأت به الاسلام هي نفسها لما راودتهم هذه الوساوس عن الاسلام والمسلمين.

وتدافع شيمل في كتابها المذكور عن محمد (النبي العربي) الأمي الذي استطاع بعبقريته الفذة وبأخلاقه التي مجدها اللع نفسه في القرآن وفي الكتب السماوية أن يوحد قبائل العرب التي كانت تخوض حروبا طاحنة فيما بينها قبل مولده، فوحدها وجعل من هذه القبائل امة قادرة على حمل مشعل الحضارة والمساهمة في بناء الحضارة الانسانية ولا أدل من ذلك على أن الاسلام وبمدة وجيزة استطاع القضاء على امبراطوريتين عظيمتين في عصره، وهما الامبراطورية الساسانية والامبراطورية البيزنطية.

ولم يكن لهذا الدين أن يسود – برأي ماري شيمل- لولا استناده إلى عقيدة سليمة تعضد رأي وموقف أنصاره من المسلمين الذين أرادوا نشره طلبا لوجع الله لا للمطامع والاموال كما تصور ذلك بعض الكتابات الاوربية الحديثة التي تتصدى لها هذه المستشرقة الالمانية بكل قوة واصرار. وأول أركان هذه العقيدة قرآن مجيد موحى به من رب السماوات والأرض، وصلاة تشد من أزر المسلم وتوثق علاقته بربه كل يوم، وصوم عظيم فيه منافع للروح والجسم، وحج من استطاع اليه سبيلا يقوى أواصر المسلمين ببعضهم ويجمعهم كل عام على البر والخير والتعارف.

وكان أول من وضع هذه التعاليم للمسلمين نبيهم العظيم فقدسوها من بعده وعملوا على المداومة عليها وتعذيبها مما يعلق بها من تصورات خاصة بمرور السنين كي تظل تصدر من منبعها الصافي العائد لرسول الله صلى الله عليه وىله وسلم. إذ صارت افعال رسول المسلمين وأقواله وسلوكه سننا متبعة يحرص على اتباعها المؤمنون وهي على العموم سلوكات تدل على صدق كون هذا النبي لعلى خلق عظيم كما صوره رب العزة نفسه.

وشريعة محمد إذا ما قورنت بالشرائع الأخرى في عصره وبعد عصره لهي شريعة سمحاء يل يظلم فيها الا من ظلم نفسه بنفسه، فالناس سواسية أحرار كأسنان المشط، والمرآة مصونة الجانب محفوظة القدر والمنزلة، وللطفل حق خاص بالتربية والتنشئة السليمة كما له حق عام عمدما يفقد أبواه، وهي شريعة تأمر بالحسنى والجميل حتى مع الخدم والمهمشين في المجتمع، وهماك عدالة واضحة في مجال القضاء فالعين بالعين والسن بالسن والبادئ هو ظالم نفسه في عرف هذه الشريعة الانسانية السمحاء.

وتنتهي هذه المستشرقة الألمانية الى ان اهم ما وسم الاسلام هو الرفق والانسانية، ومصدرهما من رفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن اعتداله حيث تعبر قائلة: لقد ارتدى هذا الرسول عباءة شرف صفة الرحمة، وعندما اتخذت الرحمة شكلاً أُرسلت إلى الخلق عبر سلوكه وسيرته العطرة، وإن جانباً مهماً من عظمة النبوة هو دور محمد (ص)  بوصفه شفيعا لأمته وهو دور مرتبط برحمته، وتستشهد ماري شيمل ببعض الأحاديث النبوية التي تثبت هذا الدور للنبي من بينها الحديث الذي تورد معناه كالآتي:  (إن الله يحشر الناس جميعاً في يوم القيامة ويطلب الخلق من بعض الأنبياء أن يشفعوا لهم عند الله فلا يجدون هذه الشفاعة فيذهبوا في النهاية إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي يُمنح الشفاعة فيشفع لهم) مؤكدة أن شفاعة الرسول جزء من كونه رحمة للعالمين وجزء من كونه نبيا مرسلا من رب العزة.