النهضة الحضارية في مشروع الإمام الحسين ( عليه السلام )

د. أكرم جلال كريم

قَامَ الإمامُ الحُسين ( عليه السلام ) فِي أَصْحَابِهِ خَطِيباً، فَحَمِدَ اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَاتَرَوْنَ، وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَ تَنَكَّرَتْ‏ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا وَاسْتَمَرَّتْ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، وَإِلَّا خَسِيسُ عَيْشٍ كَالْكَلَإِ الْوَبِيلِ‏. أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَالْبَاطِلَ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبِ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي لَا أَرَى الْمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً، وَالْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلَّا بَرَماً 1‏) .

إنّ الحديث عن مقامِ مقدّس ونورٍ من أنوارِ آل محمد (اللّهم صلّ على محمد وآل محمد) كالإمام الحسين (عليه السلام) هو حديثٌ وإنْ كان فيه عظيم العزّ وكمال الفخر وتمام الشرف، لكنّه مسؤولية عظيمة ومهمّة جسيمة فأمرهم صعب مستصعب، كيف لا وهم الآية المخزونة والأمانة المحفُوظَة والبابُ المُبتلى به النّاس، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "خالطوا الناس بما يعرفون ودعوهم ممّا ينكرون ولا تحملوهم على أنفسكم وعلينا، إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرّب، أو نبيّ مرسل، أو عبد قد امتحن الله قلبه للايمان2".

وفي هذا البحث نسعى جاهدين للوصول إلى إدراك مفهوم الحضارة والتأريخ والخلود ومفهوم الموت ومحدوديات الزمان والمكان عند الإمام الحسين ( عليه السلام ) ساعين لإلتقاط القليل من هذا الفكر وقبس من أنواره التي شعّت فملأت أركان الوجودات واخترقت جميع المحدوديات، فلا الزمان يحدّه ولا المكان يحيطه.

كربلاء والنهضة الحضارية

يَعتَبر ابن خلدون، أنّ أهم نقاط الانحراف في مسار التاريخ الإسلامي بدأت عندما قبلت الأمة ورضخت لولاية معاوية والذي قام بتوريث ابنه يزيد حيث بدأت الدولة الأموية بالنشوء، ثم بدأت الخروقات للمنظومة السياسية وتلاها السقوطات الأخلاقية نتيجة اللاشرعية والملكية الوراثية البعيدة عن كلّ معايير المراقبة والمحاسبة.

وأما الفيلسوف مالك بن نبي، فقد تناول مفهوم الحضارة بتفصيل في كتابه شروط النهضة، حيث يبيّن فيه أنّ دورة الحضارة إنّما تبدأ بالفكرة الدينيّة، أو أي فكرة أخلاقية أخرى، لتمرّ بعدها بمرحلة أسماها مرحلة الروح، لتسير ممتدّة إلى العقل فتصل إلى أعلى مراحلها تطوراً، ولكن حينما تبدأ مرحلة تفوّق الغريزة وانحطاط الأخلاق على سلطة العقل، فإنّ ذلك إذعان ببداية مرحلة الهبوط والزوال، حيث يُقدّم مالك بن نبي عناصر ثلاث من خلالها تتشكّل دورات الحضارات، وهي الإنسان والتراب والزمن، وهذه العناصر لا يمكن أن تكوّن النهوض الحضاري إلا من خلال الفكرة الدينية أو الأخلاقية والتي هي كالمحرّك والموجّه للعنصر الأول، وهو الإنسان، نحو الرقيّ والتقدم الحضاريّ.

نَهَض الامام الحسين عليه السلام لكي يُعيد اليه لباس العزّة والكرامة بعد ان بدأ شرار خلق الله بتجريده منها, فأراد الامام أن يسود العدل ويعم الأمان ليعيش الإنسان آمناً مطمئناً

 فالإنسان هو قطب الرّحى، فبعدما يُهيّأ ويُوجّه أخلاقياً وثقافياً ، تبدأ مرحلة استخدام عنصر التراب وتخضيره، والاستفادة من عنصر الزمن، من أجل السّير نحو نهضة إنسانية تنعكس نتائجها بقيام الحضارات وتقدم الأمم.

لقد تحدّث مالك بن نبي كثيراً وأبدى اهتماماً واسعا ًبمعركة صفين (سنة 37 هجرية) واعتبرها من المحطات الأساسية لدورة الحضارة؛ وقد يكون مُحقاً في تحليلاته؛ كَوْن حادثة صفين فَتح قريب ولها الأثر البارز في تحديد معالم الحضارة الإسلامية وتحوّلاتها، خصوصاً عندما قدّمها مالك بن نبي على أنّها واقعة غيّرت مسار التأريخ وأحدثت انعطافة وتجدداً في دورة الحضارة الإسلامية، حيث كان يسعى في كتابه شروط النهضة في الكشف عن نقطة انطلاقة التأريخ، موضحاً اطروحته بقوله: (ونحن نجد مثلها في الكارثة التي أصابت العالم الإسلامي في واقعة صفين، فأخرجته من جو المدينة الذي كان مشحونًا بهدي الروح وبواعث التقدّم، إلى جو دمشق حيث تجمّعت مظاهر الترف وفتور الإيمان3)، ويؤكد أيضاً أنَّ المخزون الروحي هو سبب انطلاق الحضارة لتتغلّب على جاذبيتها، وأن هذا السِّمة الروحية عندما تفقد توهجها فإنّها ستبدأ بالأفول؛ لكن ما يثير الاستغراب هو كيف لمُفكرين كابن خلدون ومالك بن نبي وهما ممّن يريا أنّ النهوض الحضاري يبدأ من خلال الطبيعة الجغرافية، والانتقال من البداوة إلى الحَضَر، والمال والثروة ، والعدل - بالنسبة لأبن خلدون - والفكرة الدينية أو الأخلاقية والتي هي المحرّك والموجّه للعنصر الأول، وهو الإنسان، نحو الرقيّ والتقدم والحضارة - ابن نبي - أقول كيف لم يتطرّقا إلى واقعة كربلاء كونها أحد أهم نقاط الانطلاق والتغيير في التأريخ والحضارة؟ كيف وهي الفتح المبين، وأنّها نتاجٌ لصفّين وما قَبْلَ صفّين؟

لقد مثَّل الإمام الحسين (عليه السلام) بنهضته حضورا ًاستثنائياً وانعطافة عظيمة شَمَلَت جميع المستويات التاريخية والحضاريّة والانسانية، والسبب في ذلك أنّه سلام الله عليه قد نَهَض من أجل الإنسان الذي هو محور هذا الوجود، نَهَض الامام الحسين لكي يُعيد إليه لباس العزّة والكرامة بعد أن بدأ شرار خلق الله بتجريده منها، فأراد الإمام أنْ يسود العدل ويعمّ الأمان ليعيش الإنسانُ آمناً مطمئناً، ولأجل ذلك كان مشروع الإمام في حقيقته مدرسةً وثقافةً وفكراً ومنهجاً وسلوكاً وشعاراً للحريّة ورمزاً يرفعه الأحرار.

إنّ المنهج الحسيني هو في الواقع مشروع فكريّ إنسانيّ، وَوَهجٌ نورانيّ تجذّر في أعماق الحقيقة، وتخطّى حدود الزمان، واخترق الموانع المكانيّة، وألغى الجغرافية المُصطنعة، وتجاهل الفوارق الطبقيّة والتصنيفات الدينيّة والعرقيّة والمذهبيّة، حتى بَلَغَ أعلى مَراتب التّحضر واللّامحدودية في  مروره عبر الأزمنة، ليكون نقطة إنطلاق في وجدان الأمم غيّرت مسار التأريخ وأحدَثَت انعطافة وتجدّداً في دورة الحضارات البشريّة عمومًا، والإسلامية على وجه الخصوص، وقد انطلق الإمامُ يحمل سلاح الإصلاح ورفع الظّلم والجّور والأخذ بيد المُستضعفين والمحرومين نحو حياة العدل والمساواة، ونهضته مسيرةٌ ومنهجٌ ومدرسةٌ باقيةٌ ما بقيَ اللّيل والنّهار، ومِشعَلُ عِزٍّ تستنير به الأمم والمجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية والتي تتطلّع وتنشد الحريّة والكرامة.

المراجع

1. زهرة الناظر وتنبيه الخاطر - الحلواني - ص88. ورواه بهذا اللفظ وبغيره:     تاريخ الامم و الملوك - الطبري - ج4، ص305 . والعقد الفريد - ابن عبد ربه - ج2، ص218. و المعجم الكبير - الطبراني - ص146( مخطوط). وحلية الاولياء – أبو نعيم - ج2، ص39. والمناقب – ابن شهراشوب - ج3، ص224. ومقتل الحسين - الخوارزمي - ج2، ص3.

مجلة الروضة الحسينية