تأثير وتأثّر الفنون الاسلامية.. صقلية انموذجاً

الحلقة (7)

د. منال حسن عكله

تأثّر الفن الاسلامي في بداية نشوئه بالعديد من اساليب وفنون الامم الاخرى، فتلاقحت حضارات وفنون تلك الامم مع الفنون الاسلامية، حتى اصبح الفن الاسلامي يتميز عن كل الفنون الاخرى، ويمكن ان نتعرّف على حقائق عديدة من خلال الخوض في حيثيات هذا التأثر:

1-ربما يعود التسامح الديني الذي عرف عن العرب مع اهل الذمة الى قيام الفن الاسلامي على أسس من الفنون المسيحية الشرقية في مصر والشام ومن فنون بلاد فارس القديمة في الجزيرة وايران (بلاد فارس) والهندية وغيرها من دول آسيا الوسطى.

وعلى الرغم من ذلك نجد الكثير من المؤرخين يصفون العرب بالتأخر والتخلف وبالنهب والسلب وبأنهم بعيدون عن الحضارة في محاولة منهم للتقليل من شأنهم، وهذا امر فيه تجنِّ على العرب فالعرب منذ طور البداوة شجعت طبيعة بلادهم على أن تقوم بينهم فنون اخرى كالشعر والخطابة والأدب كما ان خضوع العديد من المدن تحت الحكم العربي وتأسيسهم امبراطورية، قد ساعدها على ان تمتزج فيها الفنون وان تلتقي فيها الحضارات كما قيل أن سنة الفنون واحدة، كل منها يأخذ من الفنون الذي سبقته وهكذا استفاد العرب من فنون الامم التي سبقتهم، ولاسيما في الدول التي حكموها وطوروها وأضافوا اليها حتى اصبح يطلق على الفن العربي الاسلامي الفن الشرقي، الذي ازدهر في بلدان عدّة منها صقلية والاندلس..

2-ذكرنا في حلقات سابقة انه في صقلية: بُنيت الكابلابالاتينا في عام (526هـ/1132م) وكنيسة مرتورانا في (530هـ/ 1136م) وقصر العزيزة (549هـ/1154م) وقصر القبة في (576هـ/1180م) وعلى الرغم من أن جميعها بُنيت بعد انتهاء الحكم العربي في صقلية - ولكن انتهاء الحكم العربي في صقلية لم يكن يعني انعدام العرب والمسلمين فيها بل يعني العرب إن يديرون شؤون الحياة فيها وكانوا يشكلون اغلبية ساحقة في صقلية - ولم تخلوا بلرم (452هـ/1060م) من التأثيرات في الطراز المعماري العربي بل لم تخل صقلية جميعها في (483هـ/1090م) من تأثير خصائص العمارة العربية عليها على الرغم من ان البعض منها بني في فتره النورمان، ولم يقتصر هذا التأثير على صقليه وحدها بل شمل ايطاليا ايضاً في مدن أمالفى وسلرنو، وإذا كانت أوربا تدين لأحد بما حصل من تطور في حضارتها العمرانية والفكرية في القرون الوسطى فأنها تدين  للعرب وحدهم دون سواهم.

كل ما سبق كان نماذج خالدة تشهد بتراثنا الحضاري في العمارة وتدلل على نبوغ مهندسينا المعماريين ورجال الفن الذين ترعرعوا في ظل دولة الإسلام في المشرق والمغرب، وقد ساهمت تلك الدولة بأوفر نصيب في تطوير أساليب العمارة والفنون العالمية بما ابتكرت من طرز جميلة ورائعة يعتز بها مؤرخو الفنون والعمارة في العالم غرباً وشرقاً.

3-أثر العرب في الحضارة الأوربية: كانت اوربا تتلقى آثار الثقافة العربية من ثلاث جهات متلاحقة في القرون الوسطى هي:

أولاً: جهة القوافل التجارية التي كانت تنتقل ما بين آسيا واوربا الشرقية والشمالية من طريق بحر الخزر او طريق القسطنطينية، وربما كانت هذه هي الطريق التي وصلت منها اطراف الاخبار الاسلامية الى البلاد الاسكندنافية.

ثانياً: المَواطن التي احتلها الصليبيون وعاشوا فيها لزمن طويل بين سوريا ومصر وسائر الاقطار الاسلامية.

ثالثاً: الاندلس وصقلية وغيرهما من البلاد التي قامت فيها دول المسلمين وانتشر فيها المتكلمون باللغة العربية، وقد اقترنت بموضوعات الأدب العربي أسماء طائفة من عباقرة الشعر في اوربا بأسرها..

4-نحن لا ننوي اجراء جرد لمنجزات العرب العلمية والفكرية في العصور الاسلامية والوسطى، بل كل ما نريده هو إيراد بعض الامثلة للرد على الاتهامات التي وجهها لفيف من الباحثين المتعصبين ضد العرب المسلمين، ونحن على يقين بأن الدين والحضارة الاسلامية كان اشد تأثيرا وفعالية في العصور التي حكم بها المسلمون كما هي في العصور الوسطى، ثم لا غرابة في ان العلماء المسلمين كرّسوا جانبا من مجهوداتهم الفكرية للمسائل الدينية والفقهية وغيرها من العلوم المختلفة، فضلا عن الجانب العملي للإسلام الذي كان يدعو الى السلم واحلال العلم والازدهار الفكري تحت رايته.

5-بسبب سيادة الأمن: الذي عاشته الدولة الفاطمية في مصر والامارة الكلبية في صقلية وازدهار التجارة، وبسبب ما عرف به الخلفاء الفاطميين والولاة الكلبيين من تسامح ديني أدى ذلك الى تقدم الفنون وتطورها حتى اصبحت صقلية متأثرة بأساليب مصر الفاطمية الفنية الى حد كبير في فترة العصر الذهبي للثقافة والفنون والاقتصاد للدولة الفاطمية في صقلية، الاسلامية الشيعية الذي امتد لقرون عدة حتى بعد سقوط الحكم العربي فيها.

6-كانت صقلية وجنوب ايطاليا: احدى المعابر المهمة لانتقال التأثير الفني الفاطمي الى اوربا حتى شاهدنا متاحف أوربا وكنائسها تغص بالتحف ذات الطراز الفاطمي، التي صنعت في صقلية الاسلامية او في جنوب ايطاليا واحياناً نشاهد منحوتات فاطمية وجدت في متاحف أوروبا .

7-امتازت الفنون الفاطمية: سواء في مصر او صقلية بإظهار أبّهة الخلفاء، واعلان مجدهم وازدهار التراث الفني فيها، مما جعل للفاطميين أبهة وخيلاء لا يضاهيها بهم احد - قد استمدها الفاطميون من الفن العراقي - لذا حاول الكثير من ملوك النورمان تقليد الخلفاء الفاطميين في أبّهتهم وسموّهم بمُلكهم .

8-العلاقة بين الفن والعمارة: ان الكتل البنائية الممتدة بصرياً وباتجاهاتها الأفقية والعمودية، التي تجمع بين التعقيد والبساطة والفن، تتراوح ادراكاتها الحسية للإنسان بين رمزيتها وفاعليتها الوظيفية، سواء كانت على مستوى الوحدة أو النظام أو الجمالية (والذي يهمّنا) إنها للناس، الناس الذين هم أهم عناصر المجتمع ومكوناته الأساسية ولم تكن علاقة الفن منذ القدم بالجمال معروفة، فربما يكون سلاحاً سحرياً للجماعة من اجل البقاء، ومع التطور تبدلت وظيفة وانطلقت بتأثير من الدين والعلم، فأضحت تأثيراته تتبدل بحسب الفترات التاريخية، ولذلك لا نستطيع اعتبار الفن نتاجاً فردياً بل جماعياً يعبر عن قوى إنتاجية لفترة تاريخية معينة، وهذا ما يؤكد لنا أن الفن يشكل عودة الفرد نحو الجماعة.

9-تطور الخط العربي في صقلية: بأنواعه المختلفة الذي كان على علاقة وثيقة بالخطوط الاسلامية المعاصرة له، والذي تطور حتى اصبحت له سمته الخاصة، وهذا ما عرضناه في وريقات هذا الفصل، كما عرضنا الكثير من التحف العاجية والخشبية والنسيجية واللوحات والرسومات المختلفة، التي كشفت لنا عن مدى تأثرها بالفن الفاطمي خصوصا والفن الاسلامي عموماً، الذي كان العراق هو مهده الاول.

10-عدم استغنائهم عن الخط الكوفي العراقي: على طول عصور حكم الدولة الفاطمية بل حتى بعد سقوط الحكم الاسلامي الشيعي في صقلية، ويعود ذلك الى ما امتاز به الخط الكوفي، لاسيما بعد انتقاله من طور البساطة الى الرشاقة والانسجام وملء المسافات الخالية بين سيقان الحروف، التي زينت بالفروع النباتية المتشابكة او بالورود، وهي ميزة امتاز بها الخط الكوفي الذي ظهر في الكوفة - عاصمة الإمام علي (عليه السلام) - وهي احد اهم سمات التشيع في الدولة الفاطمية، وكما يقول الشاعر:

تلك آثارنا تدلّ علينا      فانظروا بعدنا الى الآثار

11-كما كان للعرب الفضل: في اتساع الاسلام في ربوع العالم وأمم الشرق كان لهم الفضل ايضا في نشر الكثير من الاساليب الفنية الاسلامية في انحاء أوربا المختلفة التي لا تزال آثار الكثير منها الى اليوم حتى اصبح الفن الاسلامي له ميزته الخاصة وطابعه الفريد عن سائر الفنون الاخرى، سواء في مجال العمارة او الزخرفة او النحت او نسيج وسجاد وخشب او تحف معدنية وغيرها.

12-لقد اتبع العرب سياسة حكيمة: عند سيطرتهم على صقلية وغيرها من البلدان وذلك انهم لم يقتصروا على استخدام فنانينهم في المناطق التي دخلوها، وانما عملوا على تشجيع فنانين اهل البلد، فضلاً عن تشجيع الفنانين والصناع من اهل الذمة او من دخل منهم في دين الاسلام، وهذا الامر ساعد على سرعة الانتقال الفني وتعلّم العرب الصناعات الفنية المختلفة التي تتوافق مع تعاليم الاسلام وميولهم.

 13-أتيح للحضارة الإسلامية، أن تؤدي ما عليها من دَين للحضارات التي سبقتها، فأثرت الأساليب المعمارية العربية الإسلامية في العصور الوسطى، إذ أعجب الملوك النورمانديون بالحضارة الإسلامية، فظهر ذلك واضحاً في عمارتهم وزخرفتهم، مما أدى الى اتصال الشرق الإسلامي بأوروبا في العصور الوسطى، عن طريق الحضارة الإسلامية التي قامت في الأندلس وجزيرة صقلية، والتي كان لتأثيراتها الدور الكبير على أوروبا في مختلف المجالات.

14-تأثرت صقلية: بالمدرسة الفنية الاسلامية في شرق العالم الاسلامي ولاسيما مصر الفاطمية، بسبب التبعية السياسية فيما يتعلق بمجالات عدة وبطرز فنية مختلفة ومتنوعة، فأثرت تلك الطرز في صقلية ومن بعدها أوروبا.

15-إن الأشياء الجميلة هي جميلة بغض النظر عن اختلاف الأذواق والآراء فإنها تبقى جميلة، لأنها تتمتع بالجمال اللائق بها بكل جوانبه الروحية والمعنوية، والفن الاسلامي كان مثالاً للجمال الذي استمد روحيته من انسانية الدين الاسلامي، وهكذا نرى أن الرسالة التي ينقلها إلينا الفن أعمق من أن تكون مجرد لذة تمرّ بدون أن تترك أثراً حياً، أو احساساً بالذوق الرفيع، ما دام الفن لغة للاتصال بين الشعوب مهما اختلفت أديانهم او حضاراتهم او لغاتهم، فالآثار الفنية هي وسيلة للتعبير عن صدى الإحساس الذي يختلج في صدر الفنان، كما انه يخط لنا التاريخ بدون أن يدوّن لنا حروفه.