الازدهار الحضاري لصقلية في ظل الحكم العربي

الحلقة (6)

د. منال حسن عكله

استمر ازدهار الحركة العلمية والآداب والفنون في صقلية، حتى في فترة الغزو النورماندي وسقوط الحكم العربي فيها، إذ ظل تميز صقلية الثقافي في فترة السيطرة النورمانية، مما أغرى أولئك المستعمرون لها على الإبقاء على المسلمين طمعاً في ثقافتهم وحضارتهم ومدنيتهم ومظاهر مثاليات إسلامهم.

فعقب غزو النورمان بقي تأثير العرب مستمرا فخلق ثقافة هجينة في الجزيرة ساهمت كثيرا في تحديد الطابع الحديث لصقلية. فقد استولى العرب على كامل جزيرة صقلية فترة زمنية قصيرة نسبياً، إلا أن التغييرات التي تعرضت لها الجزيرة بعيدة الأثر وطويلة الأمد وايجابية من الناحية الحضارية.

وتبعاً لذلك لعبت صقلية دورا متميزا كجسر بين أفريقيا وأوروبا، فأعمال العرب كانت مميزة في تحسين نظام العمليات الزراعية (مثل الري) والعلوم والتجارة والفنون، حتى إن جزءاً كبيراً من قاعدة الجزيرة الزراعية القائمة حتى يومنا هذا تتكون من النباتات التي ادخلها المسلمون إليها، بما في ذلك البرتقال والليمون والفستق وقصب السكر، وبقيت حوالي 300 كلمة من أصل العربية لا تزال موجودة في اللغة الصقلية أغلبها مصطلحات زراعية.

في أواسط القرن الحادي عشر الميلادي كانت صقلية على وشك دخول الفترة الأكثر ازدهارا في تاريخها كله، بينما كان الغزاة من الشمال على وشك إدخال نظم حكم وقانون ودين، فورثوا اقتصادا مزدهرا يستند على التجارة وعمليات زراعية كفوءة.

وهذا التوجه لدى أولئك المستعمرين أبقى على وجود الشخصية المسلمة في صقلية فترة تقرب من قرن ونصف القرن بعد سقوطها من أيدي المسلمين. استغلهُ أولئك القوم من الحكام الجدد في احتضان العباقرة من المسلمين وتمكينهم من التأليف، والترجمة حتى غدت صقلية مركزاً من مراكز العلم والترجمة في العصور الوسطى، وفيها بدأت نواة المدارس والجامعات التخصصية بتأثير مباشر من العلماء المسلمين ومؤلفاتهم المترجمة.

وقد ذكر ابن جبير، أن غليوم الثاني، كان كثير الثقة بالمسلمين وكان مطبخه في يد المسلمين وحرسه من الشباب المسلم. فصقلية استمدت بريقها وزهوها من المسلمين الذين دخلوا هذه الجزيرة وهم في أوج ازدهارهم ورقيهم الحضاري، ودأب العلماء على ترجمة علوم الأمم الأخرى، ودرسوا وابتكروا شيئاً كثيراً، فكانت البلاد الأوروبية التي دخلها المسلمون تتلقى ثماراً ناضجة، وعلوماً قد أتت أكلها في جوانب الفكر والحضارة.

كما نجد أن التأثيرات الإسلامية بلغت حداً كبيراً، لدى النورمان في عـهد روجار الثاني، إذ تـأثر بألـقاب الخلـفاء والسـلاطين المسلمين، فلقب نفسه بـ (المعتز بالله) وحمل وليام الأول لقب (الهادي بأمر الله) وحمل وليام الثاني لقب (المستعز بالله)، ونتيجة لذلك ولتلك الرعاية التي حظي بها المسلمون من روجار الثاني، فإنه أتُهم من بعض معاصريه بأنه اعتنق الإسلام، بل نجد أن الأمر زاد على ذلك  فضرب نقوداً ذهبية يداولها الناس، اتبع  فيها الصيغة الإسلامية  في الوزن والطراز ورسم فيها اسمه وألقابه وشارته الخاصة.

فقد كتب على دائرة الوجه الأول: ( الحمد لله حق حمده وكما هو أهله ومستحقه). وفي دائرة القفا: (ضُرب بأمر الملك المعظم روجار المعتز بالله بمدينة المهدية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة). وكتب في وسط الوجه: (المعتز بالله). وفي وسط القفا: (الملك روجار).

وضرب مثل هذه الدنانير بمدينة المهدية في شمال إفريقيا يدل على رغبة ملوك صقلية النورمان في إتباع سياسة اللين والتسامح التـي ترمي في الواقع إلى تهدئة الاوضاع، فمن أهم ما أقدم على عمله روجار الأول لإثبات حسن نواياه تجاه المسلمين، أنه سكَّ عملة نقدية، كتب على أحد وجهي تلك العـملة (لا إله إلا الله محمد رسول الله). وقد يبدو الهدف من ذلك هو ملاطفة عواطف المسلمين المغلوبين بعبارة هي رمز عزتهم، وعماد دينهم، فالإبقاء عليها من خلال العملة يوحي لهم بأن لهم مكانة بين شعوب الجزيرة من الأديان الأخرى، وبالتالي يجب على الفئات الأخرى أن تحترمهم، أو على الأقل تكف عن إيذائهم.

وتكثر المساجد في مدن نابولي وباري وما حولهما وفي جزيرتي صقلية وسردينيا وبالخصوص في عاصمتيهما (باليرمو) و(كالياري)، وتقل كلما اتجهنا شمالاً إلى ميلان و(تورينو) و(بولونيا) مرورا بالعاصمة (روما) و(بارما) و(جنوا) وحتى في جمهورية (سان مارينو) الصغيرة المستقلة يوجد مسجدان في الطرف الساحلي لهذه الجمهورية تم إنشائهما على فترات متباعدة نسبيا، أما بالنسبة (للحسينيات) ففي مقابل كل أربعة مساجد توجد حسينية واحدة على الأقل منها حسينية (العزيزة) في (نابولي) وهي أقدمها وحسينية (الإدريسي) في (بريشيا).

إن الحديث عن مظاهر الوجود الإسلامي في صقلية بعد سقوطها أمر مهم  يتضح من خلاله تفوق الحضارة الإسلامية، إذ أثبتت وجودها رغم عدم استمرارية سيطرة المسلمين على تلك البقاع، لأن دينا كالدين الإسلامي، وحضارة كحضارة المسلمين لا يمكن أن تزول من أي بلد وصلت إليه بمجرد استيلاء غير المسلمين عليه، وذلك لأن هذا الدين بجميع مبادئه وأهدافه وسلوكياته، وتلك الحضارة الرائعة بجميع خصائصها ومميزاتها، ولّد قناعةً لدى أولئك المستعمرين بالاستفادة من كل ذلك، مع ملاحظة أن ذلك البقاء لأولئك المسلمين لابد وأن يمر بحالتي التسامح والاضطهاد، وهـــذا ما أثبتته هذه الدراسة إلى جانب ما أثبتته من إفادة ذلك الغير من حضارة وعلوم ومعارف المسلمين.

ومن مظاهر تأثير الحضارة العربية إبان الحكم الفاطمي والإدريسي أن وُجدَ ربع دينار مكتوب بالخط الكوفي عليه اسم احد ملوك صقلية مكتوب فيها (الملك غاليالم المستعين بالله) سنة 562هـ، وقد ظلت العملة في ايطاليا مكتوبة عليها عبارات عربية الى عام 647هـ حتى سميت (العملة البيزنطية العربية)، وقد يعد ازدهار التجارة بين العالم العربي واوروبا احد أسباب ظهور هكذا عملة، كما إن عباءة التتويج التي نُسجت للملك روجير الثاني نسجت على حافة هذه العباءة كتابة بالخط الكوفي حيث إن نظرة الأوروبيين إلى الخط الكوفي نظرة على انه عنصر زخرفي، وحاول بعضهم أن يجمع بين الخط اللاتيني والخط الكوفي فظهر الخط القوطي، فضلا عن أن الخط الكوفي زُينت به المنسوجات والعمائر الدينية، ويدل على ذلك الكنيسة التي شيدها الملك النورمندي روجير الثاني في بلرمو عاصمة صقلية انها كانت ذات روحية إسلامية وكتابات عربية موجودة على جدرانها، فضلاً عن كتابة عربية وجدت على قمصان قسيسين مثل القس بولص بطرس مكتوب عليها (لا اله إلا الله محمد رسول الله).

وقد يكون الصنّاع الذين نقشوا الكتابة العربية على العملات لم يدركوا معناها إذ لا يمكن أن تكون مثل هذه الكتابة الإسلامية البحتة منقوشة بفهم ودراية على عملة ملك مسيحي، أويتم تثبيتها فوق شارة مقدسة كشارة الصليب، حيث نستنتج أن الصانع والملك الذي أمره بهذا النقش يجهلان ما تعنيه هذه الكتابة، لان من عادة الأوربيين استخدام الكتابة في عدة مجالات فكانوا يقلدونها دون معرفة معناها، مما أدى إلى تشويهها وعدم قراءتها في اغلب الأحيان.

وفي صقلية أقام النورمانديون العمائر متأثرين بالعمارة العربية الإسلامية بتصميمها وأعمدتها وأقواسها وفي المقرنصات[شكل من إشكال الزخرفة نصف دائري] والزخارف، كما تبدو في جنوب ايطاليا التأثيرات العربية فضلا عن ان أبراج النواقيس في ايطاليا في عصر النهضة كانت مقتبسة من أسلوب المآذن المغربية. وكانت مدينة بلرمو عاصمة صقلية وقاعدة ملوكها أيام حكام المسلمين والنورمان والجرمان، وتقع على ساحل الجزيرة الشمالي، ويفهم من كلام الإدريسي، انه كان يوجد في وسط بلرمو مدينة إسلامية قديمة تعرف بالخالصة، كانت مقر السلطان وجنوده إبان الحكم الإسلامي، وكان المسلمون يعرفونها باسم المدينة، والنصارى يعرفونها باسم بلرمو، ثم غلب الاسم القديم بلرمو على المدينة كلها بعد ذلك.

وقد زارها ووصفها الرحالة والجغرافيون المسلمون أمثال ابن حوقل البغدادي (ت:380هـ)، والشريف الإدريسي (ت:حوالي 548هـ)، وابن جبير البلنسي الاندلسي (ت:614هـ).

والشريف الإدريسي، كان من بين الشخصيات الخمس اللامعة الرئيسة الخمسة في بلاط روجار الثاني، وقد حظي برعاية النورمان واهتمامهم، وألّف الشريف الإدريسي كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) عن جغرافية العالم بأمر من روجار الثاني وتحت رعايته، ولهذا السبب فان الكتاب يعرف أيضا بالكتاب (الروجاري)، وكان الكتاب شرحا لدائرة فضية كبيرة للعالم أعدها المؤلف نفسه وفرغ من تصنيف الكتاب في شوال سنة 548هـ وقد استغرق تأليفه للكتاب خمس عشرة سنة، ومما يسترعي الانتباه إنه بخلاف المثقفين المسلمين الصقليين الذين هاجروا إلى شمال أفريقيا والأندلس، فان الإدريسي، وهو عربي اكتسب خبرة واسعة من رحلاته في شمال أفريقيا (والأندلس والمشرق)، فضلاً عن مكانته المرموقة في المجتمع الصقلي، لم يكن ينوي الاستقرار في غير صقلية، لاسيما وانه ولد ونشأ فيها، على الرغم من الرحلات التي قام بها...

لقد أبقى روجار الأول وهو أول حكام صقلية بعد سيطرة النورمان عليها، على المسلمين في صقلية. وأسباب تلك السياسة مع المسلمين تقودنا إلى أن نقول، إن الإسلام بعقيدته ومبادئه وأهدافه وسلوكه… هو دين الحياة والتجدد والابتكار، وهو الدين الذي يدعو إلى التسامح، وإلى العلم، والعمل، والإخلاص والدقة فيهما.

وقد كان المسلمون هم الفئة المنتجة البناءة في كل زمان ومكان؛ كما أنهم الأكثرية في المجتمع الصقلي، علماً انه قبل الدخول العربي لصقلية كان النصارى هم الاغلبية في المجتمع الصقلي ولكن مع دخول العرب لصقلية وانتشار الاسلام بينهم اصبح المسلمون هم الاغلب والنصارى هم اقل عددا منهم - هذا من جانب ومن الجانب الآخـر فإن المسيطر الجديد (الرومان) هم أقلية، وليست لهم حضارة كحضارة المسلمين في تلك الفترة والتي شملت كل مجالات الحياة.

إذاً التسامح مع المسلمين هو السائد، على الأقل في تلك الفترة الأولى بعد خروجها من أيدي المسلمين، ولكنه ليس تسامحاً مطلقاً بل اعتراه بعض صنوف الاضطهاد.

وبالنسبة لمعظم الأدباء وفقهاء اللغة وأصحاب الدواوين والنحويين والشعراء، فانه لم يتوفر لهم في صقلية النورمانية بعد وفاة غاليلم وروجار الاول الحافز الفكري ولا أمان العيش ولا المستقبل، فارتحل معظمهم عن الجزيرة، إلى مناطق أخرى يجربوا حظهم في العيش فيها.  

اما الأثر المعماري البارز الذي بقي من فترة الحكم الفاطمي لصقلية فهو قصر الفوارة، في بلرم، ويعود إلى عهد الأمير جعفر الكلبي (388هـ-410هـ)، وكان في الأصل مجموعة مبان حول ساحة تحيط بها من جوانبها الثلاثة بركة اصطناعية تستمد مياهها من احد الجبال المجاورة، وفي مدينة رقيلوا بايطاليا يبدو إن الأحواض في كنيسة القديس جوفاني قد تأثرت بالتصميم الفاطمي..

وهكذا كانت بلرمو حاضرة صقلية في العصر الوسيط، وقد قامت فيها في القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري) مدرسة للترجمة عن العربية، على غرار مدرسة طليطلة، في شمال اسبانيا، وتوطدت بين المدرستين علاقات ثقافية تم خلالها تبادل الكتب والترجمات فضلا عن العلماء.  

وبهذا تكون الفنون الإسلامية قد أثّرت منذ العصور الوسطى في الفنون الغربية، وانتقلت الأساليب المعمارية والزخرفية ومعظم أساليب الفنون التطبيقية الأخرى إلى بلاد الغرب وكانت هناك عوامل عديدة هيأت الظروف الملائمة لهذا الانتقال، وكان اول هذه العوامل الحضارية العربية الإسلامية التي قامت في صقلية لخمسة قرون، فكان لإشعاعاتها الفضل الكبير على اوروبا في مختلف المجالات العلمية والأدبية والفنية.

كانت جزيرة صقلية في العصر الوسيط، هي المعبر الثاني الذي عن طريقه انتقلت الحضارة الإسلامية إلى الفكر الاوروبي، فالمسلمون لم يكونوا مجرد نقلة أو مترجمين، ولكنهم عدلوا التراث الكلاسيكي، وأعادوا خلقه واخرجوا منه ثقافة جديدة عليها طابع الاسلام، وعلى هذه الصورة نقلوها إلى عقول اوروبا التي جاءت تطلب العلم في اسبانيا وصقلية.

ومهما يكن من أمر صقلية فإنها أسهمت وبشكل كبير في نقل الفكر العربي والعلوم الشرقية إلى الغرب، وكان للترجمة النشيطة أثرها، وبحكم موقعها وتاريخها كانت ملتقى لعدة أقوام ولغات،وسادت فيها اللغات الحية آنذاك الواسعة الانتشار (اليونانية واللاتينية والعربية) وكان بها يهود مترجمون أيضا على نحو ما كان في طليطلة، وفي صقلية ترجم المجسطي من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة وترجم في الأندلس من العربية، وفيها ترجم كتاب البصيرات الذي كان بطليموس أخرجه في الإسكندرية...

ويكفي صقلية وهي جزيرة صغيرة بجانب أسبانيا الواسعة من أن تكون قد أسهمت في نقل الحضارة الشرقية إلى الغرب، وان يكون لها نصيب غير خفي في إيقاظ اوروبا العصر الوسيط من سباتها العميق، وان تكون دافعاً في نقل معظم الحضارة العربية إلى اوروبا.

وإذا تساءل القارئ كيف حقق المسلمون ذلك كله وعهدهم كان يشوبه الصراعات الداخلية والخارجية وحكموا صقلية لمدة أربعة قرون بنوعين من الحكومات، وكانت كل حكومة تخالف الأخرى؛ يكون جوابنا هو الآتي:

أولاً: إن جزيرة صقلية دخلها العرب لنشر الدين الإسلامي فيها وكان الحكام الذين توالوا على حكمها لم يهملوا بناء المساجد وتوسيعها والاهتمام بصورة الدين الإسلامي بين الصقليين من غير إكراه الأهالي على اعتناق الإسلام، لأنه لا إكراه في الدين، لذلك لم تقف الحركة العلمية في التوسع والانتشار بين سكانها من مختلف أنواع الفنون والأدب العربي.

ثانياً: كان دخول المسلمين للجزيرة في وقت العصر الذهبي لهم في الشرق، أي إن عامل التوقيت كان مهما لنشر الفكر والحضارة العربية في الغرب، مما أدى إلى الارتفاع بالرقي الحضاري لدى الصقليين، لاسيما ان العرب ترجموا الكثير من علوم مختلف الأمم ودرسوا الكثير منها، فكانت اوروبا تقطف ثمار تلك العلوم في جوانب الفكر والحضارة، ولم تكن صقلية منقطعة عن الشرق، كما لم تكن أختها أسبانيا منقطعة، بل كانت رحلات الحج وطلب العلم ولقاء العلماء والتجارة مما يغذي تيارات الثقافة فيها، فظل النشاط الثقافي والحضاري متجدداً مع مرور الزمن، حتى بعد انتهاء الحكم والسيادة العربية عليها.