الخارجون عن النسق؛ ليوبارد وايس في (الطريق إلى مكة)

د. هاشم الموسوي

مع أن الاستشراق ظل معظمه خاضعا للعبة الاستعمارية الغربية وأحابيلها، إلا أن هذا لا يعني خضوعا مبرما من قبل كل الافراد المشتغلين في دوائر الاستشراق ومؤسساته، فقد خرجت مجموعة كبيرة من المستشرقين عن النسق الفكري المتحكم في العجلة الاستعمارية، وباتت هذه المجموعة تحاول الاشتغال لمصلحتها الخاصة ولحبها للحقيقية وحدها متحملة بذلك مواجهة ظروف العيش الصعبة في ظل الابتعاد عن الرابط الاستعماري (الحكومي)  الذي يمول أنشطة الاستشراق في أوربا ويغدق العطاء للمشتغلين في هذا المجال على ضوء الاهداف والغايات المرسومة سلفا، وفي هذا المقال سيكون الحديث عن المستشرق الكبير (ليوبولد وايس) الذي ترك اليهيودية واعتنق الاسلام بعد الاطلاع على تعاليمه ومبادئه عن كثب.

ففي أولى سنوات القرن الماضي (1900م) وفي مدينة (لافوف) الواقعة غرب أوكرانيا التي كانت تابعة للإمبراطورية النمساوية الهنغارية، ولد لمحامٍ يهودي من عائلة عريقة شديدة التدين طفل اسمه (ليوبارد) احتفل به أبواه صغيرا، قبل أن يكبر ويدرس الفن والفلسفة والتاريخ المتعلق بالتلمود وتعاليمه في جامعة فيينا وجامعة برلين، وما أن بلغ الشباب حتى اشتغل صحفيا ومراسلا في البلاد العربية، حيث أقام في القدس قبل الاحتلال الاسرائيلي وبعده واطلع بنفسه على الانتهاكات والاعتداء والموت والقهر الذي نجم عن اغتصاب الأراضي الفلسطينية وتشريد أصحابها الشرعيين تحت أوهى الحجج، ثم انتقل الى الأزهر بالقاهرة وتعلم العربية وقرأ مبادئ الفقه والتفسير واطلع على التاريخ الاسلامي والفلسفة العربية.

ومن القدس كتب (ليوبارد) مقالات أبرزت القلق العربي والاسلامي المبكر من مشروع تأسيس دولة يهودية في فلسطين، ولكنه بدلا من التركيز على تغطية الأحداث السياسية في الشرق الأوسط توجه لدراسة الإسلام فزار الأزهر والحواضر الاسلامية، وقرر في عام 1926م أن يعلن اسلامه ليحمل اسما جديدا عرف به لاحقا وهو (محمد أسد)، وسرعان ما لحقته زوجته في دخول الاسلام معرضين نفسيهما إلى الازدراء والنبذ بحجة تغيير الديانة والمعتقد.

وبما أن قبلة المسلمين مكة المكرمة كانت أمنية المستشرقين، وحلمهم الذي يتطلعون لزيارتها ليتعلموا كيف كانت انطلاقة الفكر الإسلامي من هذا المكان الذي يقع في قلب الصحراء وفي واد غير ذي زرع، مما أدى إلى أن تكون محط اهتماماتهم ودراساتهم حتى قبل البعثة النبوية فمنذ القرن الخامس قبل الميلاد من قبل الكثير مثل (ثيوفرست وهييرودوتس) تلاميذ أرسطو ومروراً بالجغرافي اليوناني (سترابون) وفِي القرن الأول والثاني الميلادي أيضاً من قبل المؤرخ اليوناني (بليني) حتى القرن الخامس عشر الميلادي عندما تدفق الرحالة الأوربيون على الجزيرة العربية.

يروى محمد أسد في كتابه (الطريق إلى مكة) المترجم للعربية السنوات التي قضاها في الجزيرة العربية قبل أن ينتقل إلى الهند، وكتب في مقدمة كتابه واصفا تلك السنوات بأنها (السنوات المثيرة التي أمضيتها مرتحلا بين كل دول المنطقة على وجه التقريب، من أقصى صحراء ليبيا حتى مرتفعات باميرز المغطاة بالجليد في أفغانستان، وبين مضيق البوسفور حتى بحر العرب) وتحدث بالتفصيل عن رحلة من 23 يوما قضاها في صيف سنة 1932، وشملت تأملات روحية وفلسفية مهمة دوّنها في كتابه.

ومن هذه التأملات كان (محمد أسد) مشغولا بالحقيقة الكبرى، وكانت أكبر الحقائق إثارة لدهشته واستغرابه ظاهرة الفجوة الكبرى بين واقع المسلمين المتأزم وبين حقائق دينهم الإسلامي وهي حقائق واضحة ومشعة وناصعة، منتهيا إلى أن حالة التخلف الحضاري التي تعاني منها الديار الاسلامية لا تعود للاسلام كدين ومعتقد وانما للمسلمين الذين تواكلوا مستسلمين لكسل عقلي ولبلادة ارتضوها لانفسهم وكان القرآن يأمرهم في مواضعه الكثيرة بالعمل والاجتهاد وتعمير الأرض والبلدان والحسنى في السلوك والتعامل وإدارة الشؤون الكبيرة والصغيرة.

ويضيف هذا المستشرق المستنير بنور الإسلام ( اذا كنت اعتنقت الاسلام فهذا لم يحصل بسبب حال المسلمين وهو حال مزري لكن السبب هو ان الاسلام حقيقة لا ينكرها عاقل، والتدهور الموجود في حال المسلمين يقابله تدهور في احوال غير المسلمين، لكن هذا التدهور غير حاصل في الاسلام نفسه كدين والتدهور المقصود حاصل بنسب مختلفة في الاديان الأخرى.... إن الاسلام اختصره بكونه آخر تعبير عن الرحمة الإلهية وما زال دينا قادرا على العطاء لتخليص الانسان والانسانية من الاستغلال والرق والعذاب الذي لا ينتهي الا بالموت، وبالتالي فمع التدهور الذي يطغى على حال المسلمين فدينهم قادر على منحهم السعادة لمقاومة الانحدار الاخلاقي والأزمات التي يعيشها الغرب اليوم)  وكان كتابه لا يخلو من تعبير عن فهمه للثقافات المحلية، معتبرا أن الدين يتجاوز المنطق الفردي والشخصي ليصبح جزءا من الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والروحية لتلك المجتمعات، وهذا ما وجده في معظم الأمصار الاسلامية التي زارها.

وكان محمد أسد معجبا بالصحراء العربية التي ألهمت الأنبياء في الديانات الابراهيمية، ولما زار الجزيرة العربية التي صورها في كتابه قبل أكثر من نصف قرن رآها لم تعد موجودة كما كان رآها أول مرة، فقد تراجعت وحدتها وجلالها في ظل تدفق هائل للنفط والذهب الذي جلبه النفط، معتبرا أن بساطتها العظيمة قد اختفت ومعها الكثير من الأشياء الفريدة من نوعها.

ولا يخلو (الطريق إلى مكة) من شرح لتحولات ليوبارد وانتقالاته الدينية والإيمانية، إذ تناول بشكل خاص مفهوم الفطرة عند المسلمين ناعتا إياه بـ(المفهوم الإسلامي للطبيعة البشرية) جاعلا منه الدليل الروحي الذي قاده إلى التعمق في معرفة الاسلام، والتعمق في تأملاته حول الروحانية التي تؤثر في حياة المسلمين وتميزهم عن غيرهم من الملل.

فهذا المستشرق مندهش من جمع القرآن الكريم بين الجوانب الروحية والجوانب الأخرى غير الدنيوية، وقد أكد له الاسلام كون البشر من مادتين (بدن وروح) ولذا لا بد من تقنين شهوات الانسان ورغباته بوعي اخلاقي لا يوجه الى الله فقط، بل يوجه الى الناس فيما بينهم، لا من أجل الكمال الديني وحده، بل من أجل حالة اجتماعية تؤدي الى تطور وعي مجتمع بأكمله من أجل الوصول إلى حياة سليمة صالحة وكاملة.

عاش محمد أسد في دول عربية وإسلامية كما ذكرنا فزار فلسطين التي بهرته في جوامعها صلاة المسلمين الجماعية وطرحت أول الاسئلة في مسيرته الفكرية والحياتيّة، ووصل بعدها إلى القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد وطرابلس وبنغازي حيث أعلن تأييده لدعم الثورة الليبية ضد الاحتلال الايطالي، وزار مكة المكرمة التي أحبها وكتب عنه كتابه المشهور، وطاف بالمدينة المنورة والطائف وصولا إلى هراة وكابل وكراتشي، ثم استقر في شبه القارة الهندية مساهما مع المفكر الهندي المسلم ( محمد إقبال)  في إقامة دولة إسلامية مستقلة عن الهند، سميت لاحقا باكستان التي حصل على جنسيتها وتقلد عدة مناصب فيها، كان آخرها منصب سفير باكستان لدى الأمم المتحدة في بداية خمسينيات القرن الماضي، قبل التنحي والتفرغ للكتابة، وفي عام 1952 استقال من وظيفته وغادر نيويورك إلى سويسرا حيث بقي عشر سنوات تفرغ فيها للكتابة والتأليف، ثم رحل إلى مدينة طنجة المغربية وقضى فيها بحدود الـ 20 عاما.

وكرّمت العاصمة النمساوية (فيينا) جهود مواطنها الراحل (محمد أسد) بتعزيز الحوار الثقافي بين العالم الإسلامي والغرب، وأطلقت اسمه على شارع في ساحة الأمم المتحدة، وشاركت في إنتاج فيلم وثائقي يحمل عنوان كتابه (الطريق إلى مكة) يستلهم السيرة الذاتية للمفكر المسلم الراحل، كماوحذت (برلين) حذو نظيرتها النمساوية بتكريم أسد وإقامة رمز تذكاري باسمه في وسطها إلى جوار المنزل الذي عاش فيه في عشرينيات القرن الماضي، وفي مدينة ميخاس الأندلسية من عام 1992م ، فاضت روحه، ودفن حسب وصيته بالمقبرة الإسلامية بغرناطة لتطوى صفحة من صفحات التفكير الاستشراقي الحر.

وأخيرا فإن صاحب الطريق إلى مكة يقدم أنموذجا للتفكير الاستشراقي العقلاني الخارج عن نسق الاستشراق، بما يحمله كتابه من عمق تأملات المفكر وقدرته على تكسير جبال الجليد التي تحيطه بها مؤسسات الاستشراق وثقافة الانتماء الديني، مما جعل من تأملات هذا المفكر الحر ومن تحليلاته للوقائع والأحداث التي تطرق لها تستحق احترام القارئ مسلما كان ام غير مسلم.