الحياة الفكرية في صقلية في عهد الفاطميين

الحلقة 5

د. منال حسن عكله

كان هدفنا من هذه الدراسة أن تكون تأريخاً للحياة الفكرية في صقلية، إذا لا بد في البدء من تكوين صورة وافية لصقلية الإسلامية من ناحيتي التاريخ والأدب، فقد كانت صقلية وفي خلال عصورها الإسلامية المختلفة مركزاً علمياً إسلامياً كبيراً، وكانت بشهادة المصادر المعاصرة لتلك العصور مضاهية للأندلس في العلماء والأدباء والفقهاء، بل أصبحت لها مدارس فكرية وثقافية مستقلة ذات شخصية صقلية بحتة، مما أدى بعد ذلك إلى نشوء علاقات ثقافية بينها وبين البلدان الإسلامية المختلفة، إذ كان يطمع أولئك العلماء والفقهاء في البلدان الأخرى إلى التتلمذ على علماء وفقهاء صقلية إما مباشرة عن طريق التلقي أو عن طريق الإجازة.

ففي فترة بني كلب - ولاة الفاطميين - نشطت العلوم والآداب في صقلية فظهرت خلالها كوكبة من العلماء والشعراء حتى إن أمراء بني كلب كانوا ينظمون القصائد الشعرية مثل احمد بن الحسن الكلبي وجعفر بن يوسف الكلبي، ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء وغيرهم من الأمراء الكلبيين رعاة للشعر وكذلك كان بعض الأمراء الكلبيين ورجال الدولة من الأدباء والشعراء، وقد وصف الدكتور إحسان عباس رحمه الله فترة حُكْم الكَلْبِيِّين لصِقِلِّيَّة بقوله:" شهدت في أثنائها تَقَدُّمًا في الحياة العمرانية، وفي العلوم، والآداب، كما شَهِدت جِهادهم المُسْتَمر في جنوب إيطاليا، وفي مقاومة أطماع الروم في الجزيرة، وأَخْلَدَت صِقِلِّيَّة إلى الهدوء، وجَنَتْ من ذلك خَيْرَ الثِّمار، وكان من أسباب هذا الهدوء: انْشِغال الجُنْد في أكثر الأوقات بالحروب في جَنوبي إيطاليا، وإخلاص الكلبيين في الدفاع عن صِقِلِّيَّة، واعتبار أنفسهم مُسْتَقِلِّين اسْتِقْلالًا داخليًا في شؤون الجزيرة".

وبالرغم من حرية العبادة فقد اعتنق المسيحيون الإسلام فأنشأت مئات من المساجد في باليرمو وحدها، وشهدت الجزيرة تقدماً في الجوانب الفكرية، فضلاً عن الحياة العمرانية.

ويجـدر بنا أن نشير قبل الدخول في الحديث عن تلك المظاهر إلى الحديث عن مجتمع صقلية، فقد كان يتكون من المسلمين بعناصرهم المختلفة من العرب، والبربر، والفرس، ومن النصارى، واليهود، وهذه التركيبة المتنوعة من المجتمع الصقلي أدت إلى تنوع الثقافات وازدهارها في صقلية.

ولم يحدث تغير كبير على الخريطة السكانية لصقلية في أوائل حكم الفاطميين للجزيرة فكانت كثافة السكان ما زالت في إقليم مآزر، وكان الوافدون المسلمون الجدد إلى الجزيرة من الصناع والجند والنازحين، وقد ضم سكان الجزيرة الأحرار والتابعين والإقطاعيين والرقيق، وكان السكان النصارى مازالوا أكثرية راسخة في الجزء الشرقي من الجزيرة، لاسيما في إقليم دمنش، ومما يذكر ان جوهر قائد الفاطميين المملوك الشهير الذي وسّع رقعة سلطان الفاطميين بحيث شمل عمليا كل المغرب وفتح مصر في سنة 356هـ هو من اصل صقلي بيزنطي، وقد شغل المسلمون الصقليون مناصب سامية في الإدارة الفاطمية في افريقيا، ومن بينهم أبو الفتح، متولي مدينة طرابلس وكان صقلي آخر اسمه بشرى، احد قادة الجيش الفاطمي ضد الثائر الخارجي أبي يزيد.

إن جزيرة صقلية تم غزوها باسم الدين الإسلامي، وأول وصية من أول قائد كانت تدعو إلى العلم وتحصيله، واستمر الحكّام المتناوبون على حكمها يسعون في بناء المساجد، وتشجيع الدعوة الإسلامية بمعناها الواسع الكبير، وقد أعطانا ابن حوقل الذي زار باليرمو في عهد الكلبيين صورة عما شاهده فيها من كثرة المساجد، فقال:" إنها كانت نيفاً وثلائمائة مسجد، وإنه عدّ في مساجدها ستة وثلاثين صفاً، في كل صف نحو مائتي شخص، وكان بمدارسها العمومية ثلاثمائة مدرس، كانوا يمتازون بالصلاح والتقوى، ومن أعظم الناس رقياً وحسن مظهر".

ومع أن تاريخ صقلية السياسي لم يكن مستقرا في فترة الحكم الإسلامي لها، إلا أن ذلك لم يقف عائقا أمام ازدهار العلوم والآداب في فترة الحكم الإسلامي لها وما ساعد على ذلك إن المعلمين في المحاضر الملحقة بالمساجد في صقلية معفوين من المشاركة في الجهاد، وكانت النخبة الحاكمة من الكلبيين-ولاة الفاطميين- تضم أشخاصا لم يكونوا رعاة للأدب فقط، بل كانوا أنفسهم أيضا كتابا وعلماء مبدعين.

وكانت صقلية مأوى أميناً يلجأ إليه العلماء المضطهدون في شمال افريقيا ومن ناحية أخرى، كان علماء صقلية يرحلون أثناء فترات الاضطراب إلى شمال أفريقيا أو مصر، لا بل أنهم كانوا يرحلون إلى جهات ابعد شرقا طلباً للعلم أو لتأدية فريضة الحج إن حركة العلماء هذه من صقلية واليها أبقت على الجزيرة في المجرى الرئيس لحركة العلوم الإسلامية وقد استفادت صقلية في القرنين الرابع والخامس للهجرة على وجه الخصوص من التيارات الفكرية الكبرى التي نمت في القيروان.

وكانت المساجد في الغالب مراكز لهذه النشاطات الفكرية وفيها كان يدرس علماء النحو واللغة فضلا عن العلوم الدينية كالفقه والحديث والقراءات كما استمر التقليد الشعري وتأقلم في صقلية فعلي بن حمزة البصري، الذي اشتهر لغوياً وراوياً لأشعار المتنبي، هاجر إلى صقلية وتوفي فيها، ووضعت دراسات عن المتنبي وشروح لديوانه من قبل ابن البر الذي زار صقلية، ومن قبل صقليين كابن القطاع.

وهذا أنموذج  من ابرز الشعراء والعلماء الصقليين في فترة حكم بني كلاب - ولاة الفاطميين – لصقلية:

1-الأمير ثقة الدولة جعفر بن تأييد الدولة الكلبي

2-الأمير أبو محمد جعفر بن الطيب الكلبي

3-الأمير تاج الدولة وسيف الملة جعفر ابن الأمير ثقة الدولة ملك صقلية

4-علي بن طاهر بن الرقباني

5-أبو حفص عمر بن حسن النحوي الصقلي

6-أبو حفص عمر بن الحسن الكاتب

وهناك من الشعراء الذين لم يزوروا صقلية ولكنهم اشتهروا في حب وولاء الخلفاء الفاطميين وذكروا في أشعارهم الكثير من الإنجازات والانتصارات التي حققها الفاطميون والكلبيون - ولاة الفاطميين- في صقلية أمثال ابن هانئ الاندلسي، الذي اشتهر بالأدب والشعر وعلم الهيئة وقيل انه كان حاذقا في فك المعمعة وقد اتهم بالزندقة أو بمذهب الفلاسفة، وكان معتقدا بإمامة الخلفاء الفاطميين وكان في شعره نزعة إسماعيلية بارزة، حتى نقم عليه أهل المدينة، فأشير إليه بالرحيل إلى افريقيا فاتصل هناك بجوهر الصقلي، فمدحه وأثنى عليه، ثم تقرب من المعز بن المنصور، فأغدق عليه الأعطيات..

وقد ازدهر الأدب والعلوم في صقلية في فترة الكلبيين وكان من ابرز رجال الفكر في عهدهم، ابن المؤدب ومحمد بن عبدون، وكان البلاط الكلبي يتسم بسيادة الثقافة ذات الطابع الرقيق التي كانت موضع ثقة الناس وإعجابهم.

وأصبحت صقلية جزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي فقد برعوا أيضا بوضع المعاجم والدراسات الخاصة باللغة وفقهها فعلماء صقلية كانا يهاجرون في طلب العلم، بالمقابل كانوا علماء من أقطار أخرى اتخذوا من صقلية موطناً لهم. مثل النحوي واللغوي والشاعر القرطبي موسي بن اصبغ الذي وفد إلى صقلية واستقر بها وفي مطلع القرن الخامس الهجري وفد إلى صقلية عالم لغوي بارز هو سعيد بن فتحون، ورحل النحوي الصقلي شهير أبو عبد الله محمد الكتاني إلى العراق وخراسان والهند الغزنوية وتوفي في اصفهان سنة512هـ، ورحل سعيد بن الحسن اللغوي من بغداد إلى صقلية وتوفي فيها سنة 385هـ.

وكانت أغراض الشعر العربي الصقلي في الفترة الكلبية المديح والنسب والخمر والرثاء، أو وصف قصر أو عود أو قنديل أو أشجار البرتقال والنخيل الذي امتاز بجماله الفريد والشعر الصقلي يختلف عن الشعر العربي في انه لا يكثر فيه الغزل المكشوف، بل نجد فيه الشعور بالاعتزاز وببسالة الإبطال العرب في صقلية، ومدح الكثير من الأمراء الشجعان، كما يلمس فيه شعورا بأسى الإنسان بطريقة تتسم بالبساطة والسلاسة.

وقد يكون هناك صلة وثيقة بين التقاليد الشعرية العربية في الأندلس وصقلية فالقصائد الشعرية للعرب في الأندلس لها نفس الخصائص على الشعر الصقلي الذي وصلنا، فهما يتضمنان نفس الخيال، والبحور التي تركز على الصورة الغنائية، ونفس المحسنات الشكلي وذلك بسبب كونها قريبة من روح السكان ولغتهم حتى إن صقلية كادت إن تكون ولاية أدبية اندلسية خلال القرنين الرابع والخامس.

وتأتي الفرصة المناسبــة لبداية سيطرة النورمــان على صقلية إثر الخلاف الذي حدث بين ابن الثمنة، وابن الحواس، فانتهى الحكم العربي على بلاد صقلية حين قام ابن الثمنة بالاستنجاد بالنورمان على ابن الحواس سنة (444هـ) قائلاً لهم: " أنا أملككم الجزيرة".

ويستغل النورمان تلك الفرصة، ويتحرك روجار النورماني من مدينة مليطو، في إيطاليا الجنوبية، ومعه ابن الثمنة، ليسيطر النورمان على ما مرّوا عليه في طريقهم دون مقاومة تذكر.

ويحاول الزياريون مجدداً إنقاذ صقلية، فيرسلون إليها أسطولاً ضخماً، مشحوناً بالرجال والعتاد، فتستقبله الريح في البحر وتغرقه، لتستمر بذلك الفرصة متاحة للنورمان في الاستيلاء على مدن ومعاقل صقلية، واحدة تلو الآخر.

وتسقط جميع مدن صقلية بآخر معاقلها سنة 484هـ، ويملكها روجار النورماني، ويسكنها الروم والإفرنج مع من بقي من المسلمين.