مائة سنة من الموت / الجزء الثاني

السيد وليد البعاج 

باحث في مقارنة الأديان

تحدثنا في الجزء السابق عن اوجه التشابه بين أوزيريس الملك المصري وعزير المذكور في القرآن الكريم ، مع ذكر اوجه الاختلاف بينهما واسباب وقوع الاعتقاد بأنه هو عزير ، واطلاع القارئ على بعض التفاصيل المهمة في الوقائع المختلفة التي جرت على الشخصيتين، وسنتحدث في الجزء هذا عن الشخصية الثانية المشبهة لعزير في التاريخ المصري القديم ألا وهو عزيرو...

عزيرو :                      

أما الاسم الآخر الذي يحمل نفس كلمة عزير فقد ورد في التاريخ القديم السابق لعهد عزير بن سرايا ، وتحديداً بالتراث المصري هو (عزيرو)  وقد أفصحت عنه التركة الوثائقية الخطية المعروفة بلوائح تل العمارنة الواقعة على بعد 300 كم إلى الجنوب من القاهرة وترجع إلى عصر يعرف بعصر تل العمارنة ، وتعود وثائقه من الفترات من 1380 – 1350 قبل الميلاد ، خلال حكم اللينوفس الثالث وأمينوفس الرابع .

وتذكر الوثيقة : أن ملك (عمورو) وهو (عبدي عشيرتا) وابنه (عزّيرو) ومحاولتهما توحيد إمارات وممالك بلاد الشام في مملكة واحدة  ، ويظهر أن عبدي عشيرتا كان قد بلغ سن الشيخوخة لذلك سيّر ابنه عزيرو شؤون المملكة  ووجه سياستها الخارجية تحت اشرافه العام وكان هو القائد العام لجيش مملكة  (عمورو) واستطاع بسياسته أن يكسب ود طرفي النزاع الحثي والفرعوني .

وهذا الاسم عزيرو يحمل نفس حروف عزير، ومن المعلوم أن الواو زائدة ، والأصل في الكلمة عزير ، وتشرح وثائق تل العمارنة النشاط العسكري والسياسي لعزير هذا وما قام به من انتصارات تنم عن ذكاء سياسي استطاع به أن يقطع ولايات عديدة من حكم الفرعون تناولناها بشي من التفصيل في تاريخ عزرا المطول .

إذن لم يكن اسم عزير غريباً على الذهنية التاريخية  ، فقد ورد بعدد من الوثائق ولأكثر من شخصية ، وهذا لا يعني أن هناك علاقة ارتباط بين الاسم والمسمى به فمن الثابت تاريخياً زمان كل شخصية ودورها وشخصية عزير معلومة الزمان ، ولا تعني أن اتخاذ المصريين لأوزيريس رباً وإلهاً كما تقول الأسطورة إنه ينطبق على بني إسرائيل ، بأنهم اتخذوا عزيراً إبناً للرب فيقع التشابه في الإماتة والعبادة .

فلذا اننا نجد في التاريخ اسما آخر لشخص يحمل نفس اللفظة (عزيرو) وليس إلها ولا يوجد تشابه بينه وبين عزير إلا أنه من منطقة ضمن رقعة بلاد الشام التي تقع أورشليم ضمنها .

 إذن عزير وعزرا هما شخص واحد والفرق بينهما أن عزرا العبري تعريبه عزير بالعربي ، فحين نراجع النصوص التاريخية القديمة لمكتشفات الآثار وما زودتنا التوراة به من مادة تاريخية إضافة لسفر عزرا الرابع غير الرسمي نجد أن من الواضح أن هذه الصفات الواردة في التراث الإسلامي تعود لشخص عزرا، أما كيف يمكننا أن نثبت من كتب اليهود أن عزير قد مات مائة سنة، فيتم عن طريق الاستدلال التالي :

يؤكد سِفر عزرا الرابع أن عزرا قد غاب أو خطف بعد أن كان يناجي الله ويسأله في معرفة السبب الذي من أجله دمر أورشليم وأهلك شعب إسرائيل ويحدد السِفر أن هذه المناجاة والرفع لعزرا تمت بالسنة الثلاثين بعد خراب أورشليم .

 ولما كان معلوما في التوراة وكتب التاريخ أن خراب أورشليم كان على يد الملك البابلي نبوخذ نصر وتدميرها مع هيكل سليمان وسبي اليهود في حملته الثانية سنة 587 ق . م ، ومن ضمن المسبيين كان عزير بن سرايا .

فيكون موت عزير ورفعه وانخطافه سنة 557 قبل الميلاد أي بعد ثلاثين سنة ، ونعلم من ذلك أن عزير بقي حيا في تمام عهد نبوخذ نصر لأن نبوخذ نصر مات بعد 24 سنة من خراب أورشليم إذ توفي سنة 562 ق . م ، واستلم الحكم من بعده زوج ابنته  (نركال شار أوصر) وحكم بابل من سنة 560 الى 556  ق . م ، وفي نفس هذه السنة 556 قبل الميلاد استلم الحكم ولده (لاباشي مردوخ) ابن نركال  شار أوصر ، ولكن نبو نائيد زوج ابنة نبوخذ نصر الثاني أخذ الحكم منه في نفس سنة 556 ق . م ، فيكون أول حكم نبونائيد هو اكتمال ثلاثين سنة على خراب أورشليم وبداية موت عزير. وخلال هذه الفترة لم تسجل الحوليات الاثارية أو كتب اليهود القديمة أي نشاط ديني او سياسي أو اجتماعي لعزير سوى ما ورد من عبارات أنه كان راعي بني إسرائيل في تلك الفترة أي قبل فترة اختطافه ورفعه أو ما يعرف في حسب القول الاسلامي إماتته وهنا تمر ببني إسرائيل أحداث كثيرة ومشاكل متعددة لا نجد لعزير فيها ذكرا مما يدل على عدم وجوده بينهم ، علماً أننا لا حظنا إشارات المؤرخين لمواقف وأحداث وشخصيات تقل شأناً ومكانة عن شخصية عزير . فإن استمرار حكم نبو نائيد  من سنة 556 إلى 539 ق . م ، الذي تضمن حدثا مهما جدا بالنسبة لليهود بسقوط الامبراطورية البابلية التي قوضت عرش اورشليم وهدت هيكلهم المقدس ومجيء ملك تنبأ لهم به بعض أنبيائهم أنه يمَكّن اليهود من العودة الى اورشليم .

 وفعلا يستلم كورش الفارسي الذي حكم فارس من سنة 559 ق . م ، حكم بابل سنة 539 ق . م ، بعد معركة صغيرة قُتل فيها (بيل شار أوصر) ابن نبونائيد الذي شارك والده في حكمه على بابل لتبقى بابل تحت حكمه إلى وفاته سنة 530 ق . م ، وكانت فترة حكم كورش فترة ازدهار لليهود حيث تضمنت صدور قرار السماح بعودة اليهود المسبيين الى ديارهم  واعادة بناء هيكلهم . وهذا من الاحداث المهمة التي يغيب عنها عزير أو عزرا ولا يرد له ذكر فيها مما يدل على عدم وجوده بينهم .

     وفي سنة 530 ق . م ، استلم حكم بابل خلفاً عن كورش قمبيز والذي استمر حكمه  من سنة 530 – 522 ق . م ، ورغم ما مر من احداث في هذه الفترة سجلتها المدونات التاريخية والتوراتية يغيب ذكر عزرا منها .

وبعد وفاة قمبيز استلم حكم بابل داريوس واستمر حكمه من سنة 522 – 486 ق . م ، ولما تتبعنا مجريات الاحداث في هذه الفترة لم نجد لعزرا بن سرايا ذكرا .

بعد وفاة داريوس عام 486 ق . م ، استلم الحكم أحشويرش الذي مات مقتولاً غيلة سنة 465 ق . م ، ولو تتبعنا كذلك فترة حكم احشويرش حول شخص عزرا نجد أنه غائب عن مسرح الاحداث نهائياً .

بعد وفاة أحشويرش أعقبه على حكم بابل ولده أرتحششتا الأول وحكم من سنة 465 إلى 424 قبل الميلاد .

وهنا نتفاجأ أن التوراة في سِفر عزرا تعلن عن ظهور عزرا في عهد هذا الملك الفارسي  من دون ذكر أية مقدمات تمهيدية للظهور ، ولا إعطاء أي تفسير علمي لفترة الغياب هذه فيأتي النص كالتالي : (( وكان بعد هذه الأمور في ملك أرتحششتا ملك فارس أن عزرا بن سرايا .....بن فينحاس بن العازار ابن هارون الكاهن الرئيس . صعد عزرا هذا من بابل وهو كاتب ماهر في توراة موسى ...... ، وصعد ومعه قوم من بني إسرائيل ... إلى أورشليم  في السنة السابعة لأرتحششتا الملك ، فقدم أورشليم في الشهر الخامس في السنة السابعة للملك ، لأنه في أول يوم من الشهر الأول كان مبدأ الصعود من بابل وفي أول يوم من الشهر الخامس وفد إلى أورشليم ... )).

ولما نستطلع السنة السابعة من حكم ارتحششتا الاول نجدها هي سنة  457 ق . م ، وهي بداية ظهور عزرا في التوراة وصعوده الى اورشليم . ولما علمنا أن خراب أورشليم  كان سنة 587 ق . م ، وعزير تم رفعه وانخطافه أو موته  بعد 30 سنة من خراب أورشليم فتكون سنة 557 ق . م ، وظهور عزرا في السنة السابعة من ملك  أرتحششستا  أي في سنة 457 ق . م،  لإن أرتحششتا الملك الفارسي أستلم الحكم سنة 465 ق . م ، فلو حسبنا من سنة 557 ق . م ، إلى 457 ق . م ، سيكون بينهما 100 سنة وهي فترة غياب عزرا عن مسرح الاحداث في بابل ، وهو الرقم المطلوب.

والحيرة التي وقع بها علماء الكتاب المقدس  في معالجة هذا الفراغ الزمني كبيرة لذا لم يجد خبراؤهم طريقا لحلها إلا القول بعدم كون عزير هو ابن مباشر لسرايا بل هو حفيد أو حفيد الحفيد  لكي يستقيم التسلسل التاريخي والزمني لأنهم وجدوا أن عزيرا قد عاصر من هم بعمر أحفاده وكان الحفيد متسنما لمنصب الكهانة مع وجود عزير المعروف كونه نجل سرايا الكاهن ، فالأولى أن يكون مقدما عليهم ، وأشهر من تناول هذا الامر من علماء الكتاب المقدس  هم اللاهوتيون المسيحيون الذين كتبوا دائرة المعارف الكتابية وقالوا ((بأننا نقرأ في سفر الملوك الثاني أن سرايا الكاهن الرئيس كان أباً ليهوصاداق الكاهن الرأس الذي أخذه نبوخذ نصر الى السبي في سنة 588 ق . م , وحيث أن عزرا عاد من سبي بابل في سنة 485 ق . م , فلابد أن كلمة أبن في هذه السلسلة لا تدل على ابن مباشر بل على حفيد قريب أو بعيد .

    وحيث أن يشوع الكاهن العظيم الذي عاد من بابل مع زر بابل , كان أبن يهوصادق وحفيد سرايا . وحيث أن (يهوصادق) لا يذكر في نسب عزرا (7 : 1-5) فالأرجح أنه لم يكن من نسل (يهوصادق) بل من نسل أخ أصغر له .

ولذلك لم يكن رئيساً للكهنة رغم أنه سليل سرايا رئيس الكهنة . وبمقارنة جدول الأسماء في عزرا ( 7 : 2 5 ) , بالجدول المماثل في أخبار الأيام الأول ( 6 : 4 14 ) نجد أنه لم تذكر ستة أسماء بين عزريا ومرايوث)).....

===============================

المصدر: مجلة الروضة الحسينية /العدد 54