تجارة رابحة

م.د خديجة حسن علي القصير

أكرمنا جل جلاله ومنّ علينا سبحانه وتعالى بأن بلغنا هذا الشهر العظيم وهذا الموسم الكريم، فنحن نتقلب بين منح الله سبحانه وتعالى ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، يقول الله عز وجل فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وأله وسلم في الحديث القدسي : ( قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ ) ( المجلسي، ٩٣ / ٢٤٩)

وعلى ضوء ذلك يكون من اللازم على الانسان المؤمن ان يتعرف على مقام ومكانة هذا الشهر العظيم، ويتعرف على خصوصياته قبل ان يقوم باي عمل او سلوك للتعامل مع هذا الشهر العظيم، كما فعل ذلك الامام زين العابدين (عليه السلام) عندما دعا الله سبحانه وتعالى والتمس منه الاطلاع على هذه المعارف، ليعلمنا كيف نطلب ذلك من الله ونلتمسه من خلال دعائه الشريف في الصحيفة السجادية حيث يقول:( اللهم صل على محمد وآل محمد والهمنا معرفة فضله واجلال حرمته) (الصحيفة السجادية، 213) وشهر رمضان من الاشهر المباركة الكريمة وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، على ذلك ((هذا ذكر مبارك انزلناه)) تنبيهاً على ما يفيض عليه من الخيرات الالهية. وقال: ((كتاب انزلناه اليك مبارك)). وقوله تعالى: ((وجعلني مباركاً)) أي موضع الخيرات الالهية (الراغب الاصفهاني، 44)

فالصوم ذو فوائد لا تعد ولا تحصى بالنسبة للإنسان الذي يؤديه بنية صادقة فهو أشبه ما يكون بالرياضة السنوية بالنسبة للجسم، فقانون الصحة الجسمية، يحتم على كل عامل يريد حفظ صحته: ان يضمر نفسه شهراً كاملاً في السنة، فيقلل فيه من غذاء النفس أي الاشغال العقلية وكذلك قانون الصحة الروحية، يحتم على كل انسان: ان يقلل من غذاء الجسم، شهراً كاملاً في السنة. ولما كانت حجة اطباء الاجسام في ضرورة الاقلال من تغذية النفس، شهراً كل عام، هو لزوم تعوض ما فقده الجسم من القوة، مدى الاحد عشر شهراً، باستهلاك الاشتغالات العقلية، كذلك يحتج اطباء الارواح، بان القصد من اقلال تغذية الجسم، شهراً كل عام، هو تعويض الروح من القوة، باستهلاك الاشتغالات المادية)) ( الشيرازي، حديث رمضان، ص142)

فالمقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها، ويُذَكِّرُها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فهو ترك المحبوبات لمحبة الله تعالى، وهو سر بين العبد وربه لأن العباد قد يطلعون على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك ذلك لأجل معبوده فأمر لا يطلع عليه بشر وذلك حقيقة الصوم.

وكان هديه فيه أكمل هدي، وأعظمه تحصيلاً للمقصود، وأسهله على النفوس. وكان من هديه صل الله عليه وآله وسلم  في شهر رمضان: الإكثار من أنواع العبادة، وكان جبريل يدارسه القرآن في رمضان، وكان يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف. وكان يخصه من العبادات بما لا يخص غيره.

وكان يعجل الفطر ويحث عليه، ويتسحر ويحث عليه ويؤخره ويُرَغِّب في تأخيره وكان يحض على الفطر على التمر فإن لم يجده فعلى الماء.

ونهى الصائم عن الرفث والسباب، وأمره أن يقول لمن سابه «إني صائم» وسافر في رمضان فصام وأفطر وخير أصحابه بين الفطر والصيام في السفر. وكان يدركه الفجر وهو جنب من أهله فيغتسل بعد طلوع الفجر ويصوم.

وكان من هديه صلوات الله وسلامه عليه وعلى أله إسقاط القضاء عمن أكل أو شرب ناسيًا وأن الله هو الذي أطعمه وسقاه.( زاد المعاج في هدي خير العباد،1/320)

فكيف يكون هذا الشهر ذو تجارة رابحة لنا؟ 

لا يخفى علينا ان شهر رمضان انما هو في حقيقته السمو بصيامنا من خلال صوم الجوارح لا الصوم عن الطعام والشراب فقط فالصائم حقيقة هو الذي صامت جوارحه عن الآثام ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور وبطنه عن الطعام والشراب وفرجه عن الرفث فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه فيخرج كلامه نافعًا صالحًا وكذلك أعماله فهي بمنزلة رائحة المسك التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم وفي الحديث "وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب ففي الحديث الصحيح:" رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش» (المجلسي،3/289).

والتجارة الرابحة التي نقوم بها في رمضان ايضا هي في مراعاة بعضنا البعض وحسن التكافل والسعي الى مساندة بعضنا بعضا خصوصا ونحن في هذا العام يكاد رمضاننا يكون مختلف عن سابقه في كوننا نمر بظرف استثنائي يتمثل بجائحة كورونا وما سببته من تدهور وتردي في جوانب الحياة المختلفة والصعوبات التي تواجه العوائل المتعففة خصوصا فيجب علينا ان نؤازر بعضنا البعض ونساهم في توفير احتياجاتهم في هذا الشهر الفضيل.