الفاطميّون حُماة الدولة العربية الاسلامية

الحلقة (3)

د. منال حسن عكلة

كانت فكرة الجهاد في سبيل الله وراء كل عمل حربي قام به الفاطميون، وحرصَ المعز لدين الله الفاطمي (341هـ-365هـ/952هـ-975م) أن يؤكد على هذا الأمر في كل مناسبة، ويدل على ذلك :

1-رفض المعز لدين الله الفاطمي عقد الهدنة مع الروم، لينفردوا جميعا بالهجوم على بحرية الأمويين، حيث وجد في ذلك ما يخالف تعاليم الإسلام بقوله:" ما كنت بادئاً إلا بمن بدا الله عز وجل به" فهو يرى أن الأمويين مهما بدر منهم فهم عرب مسلمون وهم اقرب إليه من البيزنطيين على الرغم من ان الناصر الأموي استنصر بالروم على المسلمين الفاطميين.

2-بيّن المعز لدين الله ان من بين الأسباب التي أدت إلى دخوله مصر حمايتها من هجمات الروم، لاسيما بعد ضعف الخلافة العباسية التي لم تعد قادرة على حماية رعاياها ضد الروم البيزنطيين، وإنه  قدم الى مصر رغبة في الجهاد في السبيل، ونصرة المسلمين.

3-توقفت حركة الجهاد البحري لفترة من الزمن بسبب عقد الهدنة مع البيزنطيين لانشغال الدولة الفاطمية بشؤونها في الشرق، فلم نعد نسمع عن معارك ذات اهمية خاضتها بحرية الفاطميين ضد البيزنطيين مثل معركة مجاز ريو وقلورية، مما أعطى الفرصة للبحرية البيزنطية في تزايد نشاطها البحري على سواحل الحوض الشرقي من هذا البحر، ولكن البحرية البيزنطية كانت تنقض الهدنة بين الآونة والأخرى، باقتطاع بعض الجزر دون تدخل من الفاطميين احتراماً للهدنة الموقعة مع الروم، وكانت من الاتفاقيات التي عقدت بين الدولتين الفاطمية والبيزنطية هي:

أ‌-       معاهدة سنة 350هـ/917م.

ب‌-     معاهدة سنة 357هـ/967م.

ت‌-     معاهدة سنة 377هـ/987م.

ث‌-     معاهدة سنة 391هـ/1001م.

ج‌-      معاهدة سنة 418هـ/1020م.

وكانت شروط الاتفاقيات تتلخص في ان تكون الهدنة قائمة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، مع إعطاء الحرية الدينية للمسيحيين المقيمين في أنحاء الدولة الفاطمية، ويتعهد البيزنطيين بإعطاء الدولة الفاطمية ما تحتاج من حبوب وتحتفظ الدولة البيزنطية بما تحت يدها من أراضٍ شمال بلاد الشام.

ويذكر المعز الفاطمي (341هـ-365هـ/952هـ-975م) انه كان في عقد الصلح نصر كبير لهم فيقول:" ورأينا أن الذي أفضل للمسلمين أن نوادعهم مدة نستجم بها وودعناهم على أموال ألزمها نفسه لنا ملكهم، وهو لا يلزم نفسه ذلك لأحد غيرنا بمشرق الأرض ولا مغربها، جزيةً يؤديها إلينا، وإطلاق أسارى أهل المشرق الذين في يديه لنا، وعلى شرائط يطول ذكرها، شرطناها عليه شرط العزيز على الذليل.."

4- ولعل سبب تفوق البحرية الفاطمية إبان النصف الأول من (القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي) هو السياسة الحربية المدعمة باتجاهات الفكر الإسماعيلي الذي يقوم على التطبيق العملي لفكرة الجهاد في سبيل الله ،التي كانت من أهم ركائز العقيدة الإسماعيلية، مع التطبيق العملي لسياسة التوسع الإقليمي التي تعد الهدف الرئيس للخلافة الفاطمية فهم يتطلعون للقضاء على الخلافة العباسية في الشرق والأموية في الاندلس في الشمال الغربي والقضاء على القوة البيزنطية في الغرب..

 ان تصدي الفاطميين للحملات البيزنطية على صقلية والشام حصل من عهد المنصور بالله (334هـ-341هـ/945م-952م) فقد إن اندلع نزاع بين المسلمين والمسيحيين في صقلية وتفاقم النزاع إلى اشتباكات مسلحة بين الطرفين فأوفد المسيحيون وفدا من رجال الدين الى القسطنطينية ،واطلعوا الإمبراطور البيزنطي على ما يلقونه من ضغط إسلامي عليهم فاستجاب الإمبراطور قسطنطين الثامن لندائهم، وأمر بتجهيز حملة بحرية كبيرة على صقلية، فتصدى لها والي الدولة الفاطمية على صقلية الحسن بن علي الكلبي، ودارت معركة بحرية على شواطئ الجزيرة تمكن في نهايتها الوالي من هزيمة الأسطول البيزنطي، وإغراق سفنه قبل أن تنجح في إنزال الجنود البيزنطيين على سواحل صقلية، وهكذا أرغم الإمبراطور قسطنطين على طلب الصلح، فقبل الحسن الكلبي، ووقع معاهدة معه ولكنها لم تستمر طويلاً، ولم يتوقف الكلبي عن محاربة الروم بعد نقضهم للمعاهدة، فكان يوجه أسطوله ناحية مدن جنوب ايطاليا وكان يسير من نصر إلى نصر، وفي ذلك الوقت تمكن الحسن من استرداد قلورية جنوب ايطاليا وإعادتها إلى الحكم الفاطمي.

 واستمرت حملات البيزنطيين على صقلية في عهد المعز لدين الله (341هـ-365هـ/952هـ-975م)،عام(354هـ/965م)، وهذه المرة بالتحالف مع عبد الرحمن الناصر الأموي في الاندلس الذي قام هو أيضا بمهاجمة الفاطميين لمشاغلتهم وتسهيل هجوم البيزنطيين على صقلية، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل وهزم الفاطميون البيزنطيين والأمويين معاً في نفس الوقت، وقد استمر الصراع على صقلية إلى عهد الإمبراطور نقفور فوكاس وانتقال الدولة الفاطمية إلى مصر، والامر الذي أدى إلى اتساع مسرح الحرب بين الدولتين البيزنطية والفاطمية الى أقصى درجات الحدة في عهد العزيز بالله (365هـ-386هـ/975م-996م) والحاكم بأمر الله (386-411هـ/996-1020م) وعهد الإمبراطور البيزنطي باسيل، الذي شنَّ حملات على بلاد الشام وصلت إحداها إلى مشارق طرابلس.

وبالتالي لم يكن الفاطميون هم السبب في ضياع صقلية من أيدي العرب، بل هي مسؤولية تقع على عاتق العرب جميعهم لاسيما الأمراء الذين حكموا صقلية في عهد الطوائف، واستمرار نزاعاتهم الداخلية على السلطة، والحروب بينهم التي أضعفتهم وفسحت المجال للنورمان باحتلال صقلية وملحقاتها سنة (484هـ/1091-1092م).

ومن خلال دراسة العلاقات الحربية بين الدولتين البيزنطية والفاطمية تلك الفترة، نصل الى نتائج غاية في الاهمية ولا يمكن ان نتجاهلها، تتمثل في أن الدولة الفاطمية التي ينظر اليها بعض المؤلفون انها كانت سبباً في ضعف وانحلال العالم الاسلامي، هي صاحبة الفضل في المحافظة على ذلك العالم قروناً عدة، كما انها صاحبة الفضل في منع الاحتلال البيزنطي للاراضي الاسلامية، في وقت لم يكن في مقدور أي من الدول الاسلامية التي عاصرت الدولة الفاطمية ان تقوم بهذا العمل الجلل.

ورغم تأرجح ميزان القوى بين الدولتين الفاطمية والبيزنطية، إلا ان الانتصارات التي احرزتها الدولة الفاطمية في تلك الفترة تجعل كفة الميزان لصالح الدولة الفاطمية.

الصُلح وإخلاء طبرمين ورمطة

وصل كتاب المعز الفاطمي (341-365هـ/952-975م) الى الامير احمد الكلبي، يعرفه بالصلح ويأمره ببناء أسوار المدينة وتحصينها، ويعلمه ان البناء اليوم خير من غد وان يبني في كل اقليم من اقاليم الجزيرة مسكن ومدينة حصينة وجامعاً ومنبراً.

وفي سنة (358هـ/969م) وصلت هدايا من ملك القسطنطينية الى المعز الفاطمي، مؤكداً انه نفذ ما عليه من شروط الصلح - في بداية أمره فقط - فأمر المعز الفاطمي بدوره بإخلاء طبرمين ورمطة، فاغتمَّ المسلمون لذلك، فأمر الأمير احمد الكلبي أخاه أبا القاسم وعمّه جعفر فنزلا بينهما، لكن طبرمين ورمطة هدمتا وأحرقتا، واصبحت السفارات ترد على الدولة الفاطمية من البيزنطينيين والامويين ترتب عليهم نقض الهدنة بين البيزنطيين والفاطميين في صقلية، فتكررت الغارات من كلا الجانبين على جزيرة صقلية وكالابريا.

أما سلطات عرب صقلية في ايطاليا عند بداية تأسيس الدولة الفاطمية فانها لم تتعدى مونت جارليانو منذ زمن الاغالبة، وقد فشل هجوم على نابلي وكابوا وامالفي سنة (296هـ/908م) اذا اتخذوا الفاطميون من صقلية نقطة تمركز نحو ايطاليا..

وحاصر احمد الكلبي طبرمين مع ابن عمّه الحسن بن عمار وكانت قد ثارت ضد العرب، حاصرها لمدة سبعة أشهر ونصف، الى ان استسلم حصنها في ذي القعدة سنة (351هـ/962م) وقد اجبر السكان على التخلي عن ممتلكاتهم، إلا أنهم أمنوا على أرواحهم واصبح الكثيرون منهم رقيقاً للمسلمين، وسكن الحصن نفراً من المسلمين.

وفي رمطة، استغاث النصارى بالامبراطور نيقفور فوكاس، الذي أرسل قوة كبيرة قوامها جنود من الارمن والروس والتراقيين، تحت أمرة الخصي نيكيتاس، فاستنجد احمد الكلبي بالمعز الفاطمي (341-365هـ/952-975م) طالباً المدد فأرسل اليه قوة كبيرة من الجند تحت إمرة والده الحسن الكلبي، اما البيزنطييون الذين نزلوا البر بالقرب من مسينا انهزموا أقبح هزيمة براً وبحراً، وشن العرب هجوماً شاملاً فتحوا على أثره مدينة رمطة سنة (355هـ/965م) وفي اثر هذا الانتصار توفي الحسن الكلبي مؤسس الاسرة الكلبية الحاكمة.

أما النورمانديين فإنهم وقفوا على الاضطرابات التي سادت جزيرة صقلية واتخذوا من ذلك فرصة لغزوها والاستيلاء عليها، فبدأ غزو النورمان لجزيرة صقلية باستيلاء روجر بن تنكرد على مسينا سنة (452هـ/ 1060م.

قال اماري عن النورمانديين:" فرق من المرتزقة من أمم عديدة اطلق عليها اسم النورمان لأنهم كانوا الأغلبية فيهم..).

ومهما يكن من أمر فان بعض العرب لم ينسحبوا فوراً حتى خلال فترة تفسخ حكم الكلبيين في صقلية وظهور النورمان، فحتى عام (452هـ/1060م) على الأقل ظل يقيم في مدينة ريو وغيرها من الاماكن في جنوب ايطاليا عدد من المسلمين، ولعلهم كانوا تجاراً ولاجئين، وقد بقيت في ايطاليا شواهد ومعالم وقبور كثيرة بالعربية.

ومهما يكن، فإن الفاطميين أحسنوا الى حد ما الاستفادة من جزيرة صقلية وجنوب ايطاليا، كقواعد حربية يفرضون بها سلطتهم على اراضي الدول البيزنطية.