الفوز عند أمير المؤمنين (عليه السلام)

يحيى الفتلاوي

إن تلك الكلمة العظيمة التي انطلقت من أمير المؤمنين (عليه السلام) (فزت ورب الكعبة) حينما ضربه اللعين ابن ملجم المرادي لتحمل في ثناياها معاني تعجز الألباب عن إدراك جميع كنهها، كما يعجز الفكر الإنساني عن معرفة الأسباب التي دعت أمير المؤمنين (عليه السلام) الى إطلاقها في تلك اللحظات التي ما مر بها امرؤ- خلا عباد الله الصالحين- إلا وجزع أو أخذته الرهبة.

ومن المؤكد أنه (عليه السلام) لم يكن مقصده بذلك الفوز هو الجنة لأنه نائلها دون شك فهو قسيمها وهو الساقي على الحوض و.و الخ، فضلا عن كونه أخا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولا يعقل أن لا يحظى أخو الرسول بالجنة، إضافة الى المناقب الكثيرة والدرجات العليا من الإيمان التي يحملها أمير المؤمنين والتي جعلته فائزا بالجنة لا محالة سواء نال الشهادة بتلك الضربة أو بغير ذلك.

ولو حاولنا قليلا التفكر في بعض معاني تلك الكلمة أو معنى الفوز الذي قصده أمير المؤمنين (عليه السلام) لتوصلنا الى بعضها ومنها:

1- الراحة من عبء الخلافة التي أرغم على قبولها – رغم علمه أنها كانت له ولأهل بيته بالأصل وانه اقدر الناس على أدائها على أحسن وجوهها - كونها جرّت عليه الآلام جراء جهل الناس بأحكامه تارة وبسبب الأحقاد والأطماع بها تارة أخرى حتى أنها جعلته يفقد بعض أقرب أصحابه لما وقعوا فيه من شبهات بسبب عدله واتّباعه سنن الله الحقة دون محاباة لأحد، وتطبيقه لأحكام الله دون خوف من ملامة أو نقد أو تجريح، وذلك من خلال قوله (عليه السلام) (إن خلافتكم لا تساوي عندي عفطة عنز أو ورقة تقضمها جرادة)، أو حين وصف ابن عباس النعل التي كان يخصف أنها لا تساوي شيئا، فقال له (عليه السلام): والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا.

2- خلاصه من هذه الدنيا التي لا تحمل في ثنياتها إلا المنغصات والأكدار والهموم والمتاعب والتي تتزين كل يوم من أجل إغواء الناس على السير في ركابها، وانتقاله الى الآخرة التي ليس فيها للمحسنين والصالحين إلا الراحة والاستقرار، وذلك في قوله (عليه السلام) ( يا دنيا غري غيري إليك عني، ابي تعرضت، أم الي تشوقت . لاحان حينك هيهات غري غيري . لا حاجة لي فيك . قد طلقتك ثلاثا لا رجعه فيها، . فعيشك قصير . وخطرك يسير . واملك حقير . آه من قلة الزاد . وطول الطريق وبعد السفر، وعظيم المورد).

3- فراقه لأولئك الذين لا يحملون له إلا الحقد والكره وراحوا يحوكون ضده المؤامرات والدسائس ويضعون شتى العراقيل في طريقه الإصلاحي لمسار الأمة التي انحرفت أيما انحراف قبيل توليه الخلافة، لعلمهم انه سوف يسلبهم الجاه والرفعة والمكانة التي استأثروا بها أبان الخلافات السابقة دونما وجه حق، وانه سيقتص من الظالم حتى لو كان قويا وسينصر المظلوم حتى لو كان ضعيفا، ومن الطبيعي أن قوما اشتروا الحياة الدنيا لا يريدون الاستمرار لمثل هذه  القيادة العادلة. 

 4- مفارقته لقوم طالما خالفوه وعصوه في موارد كثيرة بل وحملوه على قبول رأيهم- رغم عدم صوابه- في كثير من المواقف كما في قوله (عليه السلام) لأهل الكوفة: (قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا. وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان).

5- رغبته الالتحاق بأصحابه بقوله( اللهم أبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بى شرا منى)، ومن المؤكد أنه ما كان يقصد بهذا الإبدال في الحياة الدنيا لأنه لو كان في هذه الدنيا آنذاك قوم يستحقون أن يكونوا برفقته (عليه السلام) لما توانوا لحظة واحدة عن اللحاق به حتى ولو كانوا في أقاصي الدنيا كما فعل (أويس القرني)رضوان الله عليه، ومن هنا يتأكد انه (عليه السلام) كان يقصد بالإبدال بأولئك الأخيار الذين رحلوا للحياة الآخرة، ومنهم أبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وتلك الثلة المؤمنة التي لم تعترض عليه يوما ولم تحمل في نفوسها أية ضغينة حتى قال (عليه السلام) في حقهم: (لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي وَ لَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي وَ ذَلِكَ أَنَّهُ قُضِيَ فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) أَنَّهُ قَالَ: يَا عَلِيُّ لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَ لَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ).

6- فوزه بلقاء حبيبه وأخيه ومربيه النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكذلك لقاء النور الذي صبر على فراقه زهاء ثلاثين سنة وتلك هي الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومما يؤكد ذلك قوله مناجيا رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلّم) عند وفاتها بقوله(السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك وزائرتك، والمختار لها سرعة اللحاق بك قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وقلَّ عنها تجلدي، إلا أن لي التأسي بسنتك وفي فرقتك موضع تعز، وإنا لله وإنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله، أما حزني فسرمد وأما ليلي فمسهد، ولا يبرح ذلك من قلبي حتى يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، كمد مبرح وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا يا رسول الله فبعين الله تدفن ابنتك سرا، ويهتضم حقها قهرا، ويمنع ارثها جهرا، ولم يطل منك العهد، ولم يخلق منك الذكر، فإلى الله المشتكى، وفيك أجمل العزاء، وصلوات الله عليك وعليها ورحمة الله وبركاته).

7- أما الفوز الأكبر والذي كان أمير المؤمنين مشتاقا إليه شوقا منقطع النظير فهو لقاء المعشوق الأكبر رب العالمين، حيث كان (عليه السلام) يردد وبحرقة الملهوف لذاك اللقاء قائلا (متى ينبعث أشقاها فيخضب هذه من هذا) شواهد التنزيل ج : 2 ص : 439

8- وكذلك يمثل الفوز عند أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك النجاح الباهر في الاختبار والامتحان الإلهي في كل الجوانب وعلى الأخص منها جانب القضاء والقدر حيث انه لم يمنع بن ملجم من المضي في فعلته رغم علمه بها ومطالبة الكثيرين منه القصاص منه قبل وقوع الجريمة، قال تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب : 23]، فكان فوزه في تحقيق الارادة الالهية وعدم معارضتها او الامتعاض منها فوزا لا يمكن لأحد غير اهل البيت عليهم السلام وتلك الثلة المؤمنة حقا أن ينالوه بهذه الدرجة الكاملة.