أمير المؤمنين منبع حقوق الإنسان

صباح الطالقاني
الصورة: احمد القريشي

قد تكون تضحية القدوة في أحد وجوهها عملٌ يتم الإقدام عليه من أجل سَوق الناس نحو طريق العدالة والتكامل فكريا ونفسيا وعملياً دون إثارة الصراعات وإراقة الدماء، وهذا يبدو واضحا بجلاء في ما أقدم عليه أمير المؤمنين علي عليه السلام بالتخلي عن حقوقه والنزول إلى ما أراده القوم الذين خالفوا ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله.

كان يعرفُ ما سيحلّ به من الغبن والغدر بعد انتقال حبيبه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى جوار ربه، ويعلمُ علم اليقين بما سيحل بعياله من الأئمة والإماء من بعده وهو القائل (... وسلوني عن الفتن فما من فتنه إلا وقد علمتُ من كسَبها ومن يُقتل فيها). رغم ذلك جسّد أمير المؤمنين صورة الأب العطوف والحاكم العادل والقائد المقدام والقاضي الذي يضع مرضاة الخالق هدفاً لا حياد عنه، من حيث أنه صنيعة الله الخاصة وتربية خير الأنام المصطفى. ولم يدِر ظهره للناس عندما اختلطت عليهم الأمور واضطربت الأحوال بعد مقتل الخليفة الثالث، وقد أدركت الأمة أن خلاصها في اتِّباع وصي الرسول وخليفته الأوحد.

لقد كان للقرآن الكريم والسنة النبوية المباركة الأثر الكبير في تشكيل شخصية أمير المؤمنين الملائكية وتوجيه علاقته بالناس، فمِن كلام لهُ يبدي حرصه على الإنسان وعلى حقه في حياة عزيزة كريمة يقول (وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدّول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنة فيُهلك الأمة)...

ويؤكد الإمام عليه السلام في مواطن أخرى دفاعه عن الإنسان وحقوقه حين يقول (وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة، أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاً وعيّره ببلواه. أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه مما هو أعظم من الذنب الذي عاب به. وكيف يذمه بذنب ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه، وإيم الله لئن لم يكن عصاه في الكبير وعصاه في الصغير لجرأته على عيب الناس أكبر. يا عبد الله لا تعجل في عيب أحد بذنبه فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذّب عليه...).

وعن رعايته للبسطاء وحمايته لهم، يقول لواليه الذي أرسله الى مصر (الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى (شدة الفقر)، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً (المتعرض للعطاء بلا سؤال)، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غلات صوافي الإسلام (ارض الغنيمة) في كل بلد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن (لن تقدّس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع (غير خائف).

ولم يفُت أمير المؤمنين أن يؤكد لأصحابه ورعيته أهمية روح المبادرة في فعل الخير فكان يقول (بادروا بالأعمال عُمُراً ناكساً، ومرضاً حابساً، أو موتاً خالساً). و (بادِروا آجالكم بأعمالكم، فإنكم مرتهنون بما أسلفتم، ومدينون بما قدمتم)، بمعنى أن علينا أن نستغل فرصة توافر مقومات المبادرة المتوفرة لدينا قبل أن نفقدها بتأثير تقدم العمر والأمراض والأشغال المختلفة والعوائق وهي كثيرة ومتنوعة.

ولكي نمتلك روح المبادرة هذه يجب أن يدرك الفرد منّا أهميتها حتى يستعد نفسياً وجسدياً لاتخاذ القرار، ويغتنم الفرصة دون تأخير، لأن التأخير قد يمنع من الإقدام على فعل الخير او يؤخره، ولذلك قال الإمام الباقر عليه السلام (مَن همَّ بشيء من الخير فليعجّله، فإن كل شيء فيه تأخير، يكون للشيطان فيه نظرة).

إذا ما أصبحت روح المبادرة جزء من شخصية الفرد في مجتمعنا فإنها بطبيعة الحال سوف تتحول إلى جهد جماعي خلاق، يذيب الإشكاليات الاجتماعية وينسحب لإصلاح باقي مواطن الخلل في النسيج الإسلامي، وبالتالي فهي - روح المبادرة - تجسيد صادق لمبادئ الخير والصلاح التي جاءت بها الرسالة المحمدية وتعاليم أئمة أهل البيت عليهم السلام.