الإمام فتح الله النجفي (شيخ الشريعة) رجل الحوزات وساحات الجهاد

علي الشاهر

يموتُ الثوّار ولكن لا تموت الثورة، فالأول أمر مقدّر بيد الله (سبحانه وتعالى) يحدّد لكل منا موتته وساعتها، أما الثوّرة في الحق وفي إعلاء كلمته، فهي باقية ولن تموت بحفظٍ وتسديد منه (عزّ وجل).

بهذه الكلمات.. نعود بالزمن إلى سنة (1338 للهجرة)، وهي سنة رحيل الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدّس سره) مفجّر ثورة العشرين الخالدة في العراق، حيث انتقلت المرجعية الدينية إلى الشيخ فتح الله الأصفهاني النجفي المعروف بـ (شيخ الشريعة) وقيادة الثورة كذلك.

وفي الصحن العلَوي الشريف في النجف، ألقى شيخ الشريعة خطاباً قال فيه: إنّ "الإمام الشيرازي انتقل إلى رحمة ربه، ولكنّ فتواه بقتال المشركين باقية، فجاهِدوا واجتهِدوا في حفظ وطنكم العزيز وأخذ استقلالكم"..

فمن هو (شيخ الشريعة)؟

وسطَ غابات الجوز وينابيع المياه الباردة، من مدينة أصفهان أو كما يسمّيها الإيرانيون (نصف جيهان) بمعنى (نصف الجنّة)، ولِدَ من عام (1266 للهجرة ـ 1850 ميلادية) طفلٌ لأسرة دينية عُرفت بالتقوى والإصلاح ومحبة آل البيت (عليهم السلام).. وكان بالنسبة إليها يمثّل بشارة خير.. ربما نسبةً للضياء الذي سطع في جبهته أم في ديمات الخير التي حلّت معه، فأطلقوا عليه اسم (فتح الله)، وكان والده الشيخ (محمد جواد الأصفهاني) رجلاً عالماً تقيّاً، زهد في حياته وترك ملذّاتِها سعياً وراء الكمال، فلم يجد شيئاً أهم من تربية ولده (فتح الله) ليدخل إلى مضمار العلوم الدينية ويصبح عالماً مثله.. ولكن لم يكُ يدري ماذا يخبئ الزمن لهذا الوليد صاحب الوجه المنير.

وكانت أصفهان أبان طفولة (فتح الله) مدينة للعلم والعلماء من كل أقطار الدنيا، كانت المساجد والحسينيات فيها حافلة بالذكر والمطالعة والاجتهاد، وقد وجد الشيخ فتح الله في مسقط رأسه ما يحبّذه ويلبي فضوله من المعرفة.. وكان ذلك في فترة صباه وشبابه.. إلا أنَّه قرّر بعد فترة من الدراسة في أصفهان، التوجّه إلى مدينة مشهد المقدّسة حباً بمجاورة مرقد أنيس النفوس الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، وفعلاً هاجر إليها لإكمال دراسته الحوزوية ونال درجة الاجتهاد، ولم يبقَ فيها إلا فترة قصيرة حتى عادَ لمدينته من أجل التصدي للتدريس، ومنها إلى النجف الأشرف ليكون في رحاب سيّد العلم والبلاغة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان ذلك سنة (1295 للهجرة)، لتصبحَ محطّته الأخيرة في الدراسة الحوزوية ومن ثمّ تصدّيه للمرجعية الدينية.

تلميذ المراجع وأستاذ الفقهاء

ولا شكّ أن لجهود أساتذته العظام دوراً كبيراً في تشكيل شخصيته واستحصاله للعلوم وما تمتّع به من الصفات المائزة والسجايا الحميدة والقيادة، فهو تلميذ أسماء كبار من جهابذة العلم وأساطين الحوزة أمثال (حبيب الله الرشتي، محمد حسين الكاظمي، محمد صادق التنكابني، محمد باقر الأصفهاني، عبد الجواد الخراساني، محمد تقي الهروي) إضافة إلى أستاذه الذي لازمه خلال حياته (الإمام السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي) (أعلى الله مقامهم).

وفي النجف، استقطبَ الشيخ (فتح الله) شريحة كبيرة من طلاب الحوزة الذين حضروا دروسه في الفقه والأصول وغيرهما، وكان منهم: (الإمام الشيخ آغا بزرك الطهراني، والإمام السيد عبد الهادي الحسيني الشيرازي، السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، السيّد محمّد رضا الطباطبائي التبريزي، السيّد حسين البروجردي، السيّد محمّد هادي الميلاني، السيّد محمّد الحجّة الكوهكمري، الشيخ محمّد علي الشاه آبادي، الشيخ ضياء الدين العراقي، الشيخ محمّد حسين السبحاني، السيّد محمّد تقي الخونساري، الشيخ عبد الكريم الزنجاني) وآخرون (تقدّست أرواحهم الزكيّة).

أما لقب (شيخ الشريعة) فقد حازه، لِما وصل إليه من الدرجة العلمية، ونشاطه الدائم في البحث والتدريس والتأليف والإفتاء، فقد ترك (قدس سره) مؤلفات قيمة أبرزها (القول الصراح في نقد الصحاح، مناظرة مع الآلوسي البغدادي، رسالة في علم الباري بالممتنعات، رسالة في قاعدة لا ضرر ولا ضرار، رسالة في قاعدة الطهارة) فضلاً عن رسالته العملية التي توسّمت بـ (زاد المتّقين).

محطّات حياتية وسِفرٌ جهادي

ويبرز دور الإمام الشيخ فتح الله، خلال تصديه للمرجعية الدينية العليا، فضلاً عن قيادة ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، وقبلها تصديه للمرجعية بعد وفاة أستاذه (اليزدي) حيث مال الناس لأخذ الأحكام الشرعية عنه، ولم تأتِ مثل هذه المكانات السامية في حياته فجأة، فقد حفل سجلّه النضالي بمواقف مشرّفة نتتبّعها عبر النقاط التالية:

أولاً: مشاركاتُه الواسعة في مختلف القضايا الإسلاميّة، وكان ينزع إلى دخول ساحات التغيير الاجتماعيّ والسياسيّ.

ثانياً: تأييده للحركة الدستوريّة في إيران، وساهم في الفُتيا بإعلان الحكم الشرعيّ فيها.

ثالثاً: مساهمته في رفض المدارس الحديثة التي أخذ المستعمرون يؤسسونها في البلاد الإسلاميّة لتبثّ الأفكار الغربيّة، من أجل الوقوف أمام الهجمات الفكرية والثقافية ومنع الشباب من الانجرار وراءها والانخداع بها.

رابعاً: شارك مع علماء النجف الأشرف في كتابة الرسالة التي أرسلت إلى الصحف العثمانية عام (1911 ميلادية) إعلاناً للزوم الجهاد من أجل تحرير ليبيا من الاحتلال الإيطاليّ وتحرير إيران من الاحتلال الروسيّ.

خامساً: تصدّيه لإقامة المؤتمر الجهادي في مدينة الكاظمية المقدسة، بحضور عدد من العلماء الأفاضل، والذي قرروا خلاله إعلان الجهاد مرة أخرى ضدّ الاحتلال الروسي، وكان ذلك بسبب قصف الجيوش الروسية بالمدفعية لمرقد الإمام الرضا (عليه السلام)، حيث زحفوا فعلاً صوب إيران لرد العدوان الروسي عن المرقد المطهّر ومدينة مشهد المقدسة.

سادساً: مشاركته في سنة (1914 ميلادية) مع علماء آخرين أمثال الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والإمام السيد مهدي الحيدري في التصدي للاحتلال البريطاني الذي غزا مدينة القرن بمحافظة البصرة، وكان رغم كبر سنّه يحمل السلاح ويقدّم روحه قرباناً للدفاع عن الأرض والحرمات.

سابعاً: مشاركته مع الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي عام (1918 ميلادية) في توجيه رسالتين يطلبان فيها تأييد حقوق الشعب العراقي في الحرية والاستقلال من الاحتلال البريطاني.

حياة ختمها بالانتصار

وعودةً على ما ذكرناه في مقدّمة حديثنا عن تصدّي الإمام (شيخ الشريعة) للمرجعية والثورة الشعبية، إذا قال كلمته المشهورة في الصحن العلوي المطهّر، بضرورة مواصلة الجهاد ضد المحتلّ البريطاني وكان ذلك وسنة (1920 ميلادية) لم تنتهِ بعد، فأخذَ يتّصل بالثّوار ويتّصلون به ويتابع بنفسه آخر المجريات على أرض الواقع، وقد التفّ من ورائه عدد آخر من شيوخ ووجهاء العشائر العراقية الأصيلة،  ولم ينقضِ سوى (45 يوماً) من توليه القيادة والمرجعية انتهى الاحتلال البريطاني العسكري للعراق وتم تشكيل الحكومة المؤقّتة وصولاً إلى إعلان العراق مملكة عربية مستقلة.

وفي شهر كانون الأول من عام الثورة الموافق لـ (شهر ربيع الثاني 1339 هجرية) ودّع شيخ الشريعة (قدس سره) أبناءه ومحبّيه، حيثَ ارتقت روحه الطاهرة إلى سماء العلى، ودفن بعد تشييع مهيب في الصحن العلوي المشرف من الجهة الشرقية، بعد حياة حافلة بالعلم والجهاد والنضال، أكّدت على دور مراجع الدين والعلماء القادة في حفظ هيبة الأمم وتحقيق عزّة الناس وما فيه كرامتهم.

مجلة الروضة الحسينية