اعتقوا رمضان.. لنخرج الصيام من قفص الاتهام

د. حنان العبيدي/ جامعة بغداد
الصورة: احمد القريشي

يعد أصحاب العلم أن شهر رمضان شهر التنقية والتصفية لحسابات عام كامل من الذنوب والأخطاء وهو كما ورد في سفر أولياء الله انه شهر (الله) وفيه نزل أعظم دستور لتنظيم حياة البشرية هو القرآن الكريم في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذًيَ أُنزًلَ فًيهً الْقُرْآنُ هُدًى لًّلنَّاسً وَبَيًّنَاتْ مًّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانً). البقرة: 185

ولما كان هذا الشهر الفضيل يحمل كل هذه المزايا العظيمة كان لا بد ان يحمل معه سلوكيات واساليب التعبير المباشرة وغير المباشرة في إعلاء شأنه واغتنام فضله، اذ ورد عن أميرالمؤمنين (ع) سمعت خطبة النبي (ص) في فضل شهر رمضان، قال (ع): فقمتُ فقلتُ  يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟.. فقال (ص) يا أبا الحسن!.. أفضل الأعمال في هذا الشهر: الورع عن محارم الله عز وجل.

وهل تحفضنا في التهيوء للورع والكف عن محارم الله في شهر لا نجد في غيره فرصة للعتق من النار؟ أم اننا نجعله ذريعة للدخول في محارم تجعله مسببا في الدخول فيها ونضعه موضع المذنب بدلا من ان نجعله عتيقا لذنوبنا؟

رمضان في قفص الاتهام

كثيرا ما نجد بعض الصائمين يملون الحجج في مخالفة قواميس ونواميس الشرع تحت ذريعة الصوم مما يدرجه تحت بند المخالفة المشروعة (بحسب النفس الأمارة) فيرتكبون معها أشنع الذنوب، بالاكتفاء بأنه امسك عن الطعام.

في حقيقة الأمر ومنذ أعوام ليست بالقريبة دخلت إلى بلداننا الإسلامية بدع وذرائع متعددة تتنافى مع شروط الصوم، تساهم فيها المجتمعات الإسلامية جموعا وفرادى، وبمباركة من الحكومات التي صارت العديد من مؤسساتها مرتعا لحمل الناس الى المخالفات وبالتالي إبطال الصوم، ترى كيف وأين؟

الاستعداد المسبق.. هدرا للجهد والمال

يبدأ الاستعداد المسبق وبحركة دءوبة لا تكل ولا تمل تبدأ بصرير أقلام الكتاب والفنانين والتباري في كسب ود شركات الإنتاج السينمائي في الحصول على عصا السبق بتقديم مسلسلات تعمل خصيصا لأيام رمضان وكلما كانت الأحداث أكثر أثارة وخروجا عن الذوق العام واحتوائها على اللقطات غير الأخلاقية المثيرة أو العنيفة وإظهار المحرمات على أنها جزءا لا يتجزأ من حياتنا الطبيعية، كلما حضي المسلسل بمباركة شركات الإنتاج لتبدأ بعدها التحضيرات الهائلة وهدر الأموال والبذخ على المشاهد المثيرة واستغلال النساء بأشكالها الفاتنة لتكون أكثر قدرة على جلب اكبر عدد من المشاهدين (الصائمين) للترويح عنهم عما فعله بهم (شهر الصوم) من الإحساس بالكبت والكآبة بدءا من لحظة الإفطار حتى الإمساك، ولولا الإقبال على مثل هذا النوع من العروض من قبل الصائمين ورغبتهم الملحة في المشاهدة لما تكلفت هذه الشركات كل هذا البذخ والعناء، ترى أي نوع من المشاركة الآثمة التي يقوم بها مشاهدوا هذه المسلسلات، وأية تهمة أُنيطت بشهر الغفران؟

مما تقدم .. علينا أن نعي أي نوع من المحرمات نقترف في شهر الطاعة والغفران؟ وعلينا أن نسأل أنفسنا هل نحن قادرين على التخلي عن مشاهدة هذه البرامج والمسلسلات واللجوء إلى ذكر الله وقراءة كتابه العزيز كي لا نجعل من شهر الصوم في مصاف المتهمين الذين دفعونا لاقتراف المحارم، ونستبدل ذلك بالعفو والمغفرة ورضى الله عز وجل؟

لا يقتصر الأمر على هذا في إخراجنا من اجر الصوم في إقتراف المعاصي وإنما نذهب أحيانا مذاهب أخرى قد تكون أكثر مباشرة في اقتراف الآثام، أذ دأبت الكثير من العوائل سيما الرجال للخروج إلى حلقات اللعب والتسلية التي تعتمد عادة على الرهانات ويكتنفها الكثير من المساومات وأساليب الغش للحصول على الفوز، كما يحصل فيها احيانا الكثير من التجاوزات غير المشروعة على الجوانب الاعتبارية للخصوم ويؤدي في الغالب الى التنافر والعداء بين الأخوة بدل من ان يستثمر هذا الشهر لترطيب النفوس وجعله سببا في انهاء الخصومات السابقة .. مما يدخله في حلقة إتهام جديدة.

رمضان شهر العمل.. لا تقاعس فيه ولا كسل

نرى ان الكثير من العاملين يجعلون من الصيام حجة في التقصير بعملهم وأداء ما يتوجب عليهم من التزامات، كما يعللون تأخرهم في القدوم إلى مواقع العمل بأنهم كانوا قد امضوا الليل بالعبادة، وقد يجعلون من الجوع أو العطش مبررا لعدم اتقانهم واجباتهم والتفريط بمصلحة المواطن الذي ينتظر انجاز حاجته الذي هو الاخر يكون صائما ويعاني ما يعانون، وكثيرا ما يبدون تذمرهم وسخطهم ويتجاوز البعض منهم على المراجعين بحجة انه منهك ومتعب من أثر الصيام وهم طبعا يرون ان للصائم الحق في أن يخفف عنه من جهد العمل ومشقته ، كما يتحين البعض منهم الفرص لترك العمل بحجة التحضير للفطور، كما يدأب البعض الى الكسل والنوم طوال النهار والإبتعاد عن ممارسة أي جهد خوفا من شعوره بالجوع او العطش، هنا سنكون قد ألبسنا شهر العمل والعبادة اسبابا جديدة في جعله في دائرة التقصير والشعور بالذنب.

تكافل.. أم تغافل؟

يذهب البعض إلى مواراة البعض الآخر تحت مسمى التكافل الاجتماعي، فيذهب مذهبا مغايرا متغافلا في أن يجعل ذلك بابا لتملق المسئولين بإرسال الهدايا والهبات وفتح الموائد الباذخة لإفطارهم، كي يخرج من عباءة الشعور بالذنب على انه يمارس الرياء والرشوة، في حين يكون الأجدر به أن يفعل ذلك لأجل الفقراء والمحتاجين من الأرامل واليتامى وذوي الدخل المحدود، ولكي يظهر بمظهر المقتدر وانه جدير بتكريم ضيفه المميز على العالمين بأن يملأ مائدته بما لذ وطاب وبمقدار يكفي لأضعاف الحاضرين ليكون مآل الفاضل منها الى القمامة، فيكون بهذا قد اقترف ذنبان احدهما حرمان المحتاجين مما اتلف، والآخر هو التبذير الذي وضع القرآن الكريم أصحابه في مصاف الشياطين، وكل هذا وذاك يدفع ثمنه شهر العطاء والمغفرة.  

استغلال الأحكام.. بلا إحكام

تعوّد البعض من المتلاعبين بمظاهر الأحكام الشرعية كانت أو الوضعية بتطبيق الشكليات بما لا تبدو عليه الإشكاليات، ويلجأ البعض منهم إلى استغلال حكم الإفطار أثناء السفر في الآية الكريمة في قوله تعالى: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ( البقرة/، 184  فيعمد إلى اللجوء إلى السفر إلى الخارج في رمضان بدون حاجة أو ضرورة تجيز له ذلك بل من أجل التحايل لغرض الإفطار واستثمار المنحة التي وهبها رب العزة للتخفيف عن المسافر اضطرارا في حين لا تجيز بعض المذاهب الإسلامية حتى الذهاب إلى العمرة في هذا الشهر الكريم بحكم انه لا يجوز تغيب المستحب على الفريضة، وقد لا يفطر المسافر عمدا وإنما يختار بلدا يكون فيه الجو معتدلا  والحياة فيه هادئة هانئة ليعيش ايام صيامه في حالة من الترف والإستجمام ويتخلص معه من عناء الصوم في بلده الحار والمشحون بالعوائق والمشكلات، يكون معها قد أسرف وتجاوز احد اهم اهداف الصوم هو العناء لآجل الشعور بمشاعر الفقراء فيدفعه ذلك إلى التقرب منهم ومساعدتهم، كل ذلك يحصل بسبب شهر الطاعة وإلايمان.

مباريات في ارتفاع الأصوات

عاش المسلمون قرون عديدة يعتمدون في معرفة وقت الإفطار والإمساك من سماع الآذان عن طريق الجوامع بالإنصات إلى صوت المؤذن، إذ لم تكن هنالك مكبرات صوت أو تكنولوجيا صوتية تصل بالحدث إلى أبعد وأعمق نقطة في الأرض، وعلى الرغم من تقارب الأحياء ووجود وسائل الاتصال الحديثة التي تستطيع أن تنقل لنا هذين الوقتين المهمين بالنسبة للصائم حتى أن هنالك منبهات لا تطلق أجراسا فحسب بل تؤدي الأذان في وقته، لكننا نجد أن بعضا من دور العبادة صارت تتبارى في عدد مكبرات الصوت علما بان الكثير منها يقع في رقعة جغرافية صغيرة، وليت الأمر يقتصر على الأذان فحسب بل يمتد الأمر إلى ساعات طويلة ومع إننا نسلم بنبل الهدف إلا انه أحيانا يبدأ من تلاوة القرآن الكريم إلى الحديث إلى التراتيل الرمضانية إلى غير ذلك مما يحدث فوضى وضوضاء قد لا يفيد منها السامعين بقدر ما يشعروا بالضجر، ناهيك عن المرضى والطلبة والعاملين الذين يعودوا منهكين وبحاجة إلى قسط من الراحة والنوم كما أن الكثير من الأحياء يقطنها من غير المسلمين وهم غير معنيون بما نفعل، كل هذا يحصل إكراما لرمضان الذي صار محطة للاستياء بدلا من الركون إلى السكينة والراحة.

النساء.. ورمضان

تتهيأ الكثير من النساء قبل أن يقدم شهر (الصوم عن الطعام) إلى جمع اكبر قدر ممكن من الأطعمة الجافة والمواد التموينية بشكل مفرط وكأنها تستشعر بان البلد سيمر بقحط السبع سنين العجاف، مما يثير شهية التجار إلى رفع الأسعار التي تصل أحيانا إلى الضعف في كثير من الأحيان، ثم يبدأ كتاب فن الطبخ بالعمل على قدم وساق فلا تترك شيئا يفوتها بدءاُ من المقبلات والمتبلات الى المقليات والمحشيات وصولا إلى المشويات التي تعج روائحها قبل الفطور بقليل، وفي الطرف الآخر يقف الفقراء في حيرة من أمرهم يشدون الأيدي على البطون فإن كانوا لا يستطيعون تدبير ذلك في الأيام الاعتيادية فكيف بهم في موسم اشتعال الأسعار، فبهذا نقلب مهمة رمضان الكريم من مساعدة الفقير والشعور بحاجته إلى المساهمة المباشرة والفاعلة في تجويعه وإذلاله، وقد يصل الأمر إلى منعه من الصيام لعدم قدرته على الإمساك التام مدى الأيام، يقابله في الضفة الأخرى الإسراف المفرط في المأكولات والمشروبات حتى صار بعض الناس ينفق في رمضان على طعامه أضعاف ما ينفقه في سائر شهور السنة، متناسين قوله تعالى: ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف 31)، فحوّلنا الشهر العظيم إلى أكثر المبذرين إسرافاً.

ألم نضع شهر الله في زنزانة الاتهام والحساب بعد؟ فما زالت الكثير من الممارسات الخاطئة تحدث والتي لا مجال لسردها هنا جميعا، لذا ينبغي على المؤمن الذي ينوي ان يعد من الصائمين المقبول صيامهم وقيامهم تجاوز هذه النواقص.. مع دعائنا للجميع أن يبلغنا الله صيامه وقيامه.