الإسلام و المواطَنة

 

الباحث والكاتب : حسن عبد الهادي اللامي

  يعتبر مفهوم المواطنة من المفاهيم الوافدة على ثقافتنا العربية الاسلامية لأنه مفهوم غربي انحدر من الحضارتين اليونانية والرومانية، وكان له معنى خاص في هاتين الحضارتين، ولم يبقَ على مدلوله الاصيل بل تمثّل في صور متنوعة الى ان دخل دائرة الاستعمال في عالمنا العربي والاسلامي, ويدور مفهومها بين محورين :

محور الانتماء ومحور العلاقات

 ومحور الانتماء يقصد به هو انتماء الانسان الى بلدٍ ما (الحاضن الجغرافي ) سواء كان مسقط رأسه او انتقل اليه لغرض ما وهدف معين وتُضمن حقوقه الانتمائية ، كما عليه ان يلتزم بواجباته ضمن اطار تلك البلد والارض .

ومحور العلاقات يقصد به (علاقة متبادلة بين الأفراد والدولة التي ينتمون إليها ويُقدّمون لها الولاء؛ لتفرض لهم فيما بعد مجموعة من الحقوق المدنية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ){المصدر/ المواطنة بين السياسة الشرعية والتحديات المعاصرة}

او صورة  العلاقة بين الفرد والدولة التي يُحدّدها قانون الدولة بما تتضمّنه من حقوق وواجبات ... " المصدر/ دائرة المعارف البريطانية"

اذن زاوية النظر تتجه نحو البُعد المادي الارضي الدنيوي ، بينما موقف الاسلام من عالم الدنيا يتمحور حول كونه عالما فانيا زائلا باطلا لا يمكن لعاقل ان تكون دوافعه لأجله !

المواطنة كما يفسرها الشيخ بهاء الدين العاملي الوارد لفظها في حديث منسوب للنبي (حب الوطن من الايمان ) يقول في كتابه الكشكول ( التجريد سرعة العود إلى الوطن الأصلي والاتصال بالعالم العقلي وهو المراد بقوله عليه السلام حب الوطن من الإيمان ، وإليه يشير قوله تعالى : ' يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ' ، وإياك أن تفهم من الوطن دمشق وبغداد وما ضاهاهما ، فإنهما من الدنيا ، وقد قال سيد الكل في الكل صلوات الله وسلامه عليه : حب الدنيا رأس كل خطيئة. وقال تعالى : ' ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً ')

وهذا المعنى من البهائي ناتج عن الذوق العرفاني والروحاني لمعنى الوطن .

ولكن هل معنى هذا ان الاسلام لم يكن مكترثا في تنظيم (انتماءات الفرد الجغرافية ) و(علاقاته بنظام الحكم والدولة والمجتمع بكل مستوياته ) ؟

كلا ؛ بل ان بعثة الانبياء واستمرارية دورهم عبر الائمة والاوصياء والصالحين انما هي قائمة لأجل عمارة الارض؛ وتسخير كل ما في السموات والارض ، فثمة نظامين : "الاستعمار بمفهومه الايجابي" ، و"التسخير بمفهومه الايجابي" وكلا اللفظين وردا في القرآن الكريم في قوله تعالى : {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود: 61]

{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]

{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } [الزخرف: 32]

اذن ؛ الانتماء والعلاقات قائمان على عمارة الارض وما يلازم ذلك من ضرورة وجود نظام يحكم طبيعة الاعمار وكذلك التسخير أي الاستخدام في المنفعة المتبادلة وايضا هي مما ينبغي ان تقام على نظام متزن يحكم اطرافها .

اذن موقف الاسلام من النّاحية الروحية يعتبر الانتماء للوطن وما يترتب على هذا الانتماء من التزامات حقوقيّة وواجبات ..., مما هو معروف الان في النظم المشاعة في العالم  (موقفه روحيا ) أي هو يتعامل مع القيم الوطنية بقدرها فما كان منسجما مع روح الرؤية الكونية للعالم من الايمان بالله واليوم الاخر فيكون الانتماء توصّلي ، مرحلي مؤقت – من جهة الاعتقاد ولكن من جهة العمل يقدّر بقدره ان لم تكن النظم تتقاطع مع الايمان والشريعة فهو مما ينبغي السعي الى احترامه وتطبيقه .

وان كان هو مما يؤثر على ثوابت الايمان والشريعة فان الرؤية الدينية تأمر بالهجرة والخروج من تلك البلد بل هناك مفهوم قديم في الفقه يعتبر بقاء الشخص المسلم في دار الشرك من التعرب بعد الهجرة لان الاعرابي هو من بقي في ولائه وانتمائه لبلد ومجتمع مشرك الا انه مفهوم قديم.

 ولكن مما ينبغي معرفته ان قيم المواطن – الانتماء والعلاقات – انما هي تقدّر بقدرها المناسب بملحظ الايمان والشرع . والموضوع حيوي ودسم لا يمكن حسم كل قضاياه في هذه العاجلة .

متى يمكن ان نقول ان هذا النظام اسلامي او ان هذه الدولة تمثل جوهر الاسلام؟

تحديد مصداق النظام الاسلامي في العصر الراهن قائم على تحديد مفهومه وهو من الاشكاليات العميقة والمتمددّة في الفكر الاسلامي عموما والاسلام السياسي خصوصا،  اذ ثمة اتجاهين :

اتجاه يضيق دائرة النصوص الدينية ( ما يظهر من الادلة القرآنية والنبوية والمولويّة ) فيذهب الى ان الاسلام لم يكن ليتدخل في الشؤون السياسية لنظم الدولة وان دور النبي(ص) والائمة (ع) كان دورا روحيا ، والامّةُ هي التي ارتضت بالنبي (ص) والإمام علي (ع) ان يكونا قائدين وحاكمين والا فوظيفتهما الاساسية هي تبليغ الدين وتمثيل القيم الاخلاقية فحسب.

واتجاه ثاني : وسّع من دائرة فهمه للنصوص؛ حيث يرى ان المشرِّع –ممثل الدين بصورة عامة – يتدخل في تفاصيل حياة البشرية من آداب الطعام والتخلي الى نظام الحكم واقامة النظام السياسي ( شمولية التنظير لحياة دون قيد او تخصيص) .

وهاتنا الرؤيتان عليهما فروع وفروع كثيرة وأراء متعددة ومتنوعة و مختلفة ومتخالفة احيانا...

وباختصار ان تحديد مفهوم النظام الاسلامي فضلا عن تحديد وجود دولة في عصرنا الحاضر تمثل الاسلام تمثيلا حقيقيا امرا معقد وليس بالسهل الا ان الرؤية الاجمالية للمصاديق ممكنة على انها لا تمثل جوهر النظام الاسلامي الذي يمكن مقايسته على ضوء حكومة "النبي الاكرم ((صلى الله عليه وآله)) والامام علي ((عليه السلام))" !

 هذا غير متوفّر؛ لأسباب كثيرة اهمها تمازج الثقافات الغربية بالإسلامية وتبدّل اساسات البناء لنظام الحكم ؛ فنظام الحكم الديمقراطي القائم على الرؤية الغربية غير منسجم مع الايديولوجيا الدينية لدى كل الطوائف والفرق الاسلامية ...

المصدر/ مجلة الروضة الحسينية