الإمام الكاظم عليه السلام.. عميد الجامعة الجعفرية

محمد طاهر الصفار 
الصورة: علي الورد                                                         

لم يشهد التاريخ الإسلامي ولادة حضارة إسلامية علمية عظيمة أثرت الفكر الإسلامي والإنساني بأرقى العلوم أعظم من مدرسة الإمام الصادق، فلم تقتصر هذه المدرسة في علومها على العلوم الإسلامية كعلوم القرآن والفقه والحديث وغيرها وإن كانت هذه العلوم من أساسياتها، بل تناول التدريس فيها مختلف العلوم والأبحاث، فكانت مدرسة علمية موسوعية شاملة بحق ضمّت علوم التفسير، والفقه، والحديث، وعلم الكلام، والجدل، والأنساب، واللغة، والشعر، والأدب، والكتابة، والتاريخ، والفلسفة، والكيمياء، والفلك، وأصول الآداب، والقيم الإجتماعية، ومكارم الأخلاق، والإصلاح الشامل في كل ميادين الحياة.

وقد وتزعم الإمام الصادق هذه المدرسة وأرسى دعائمها على أسس علمية متينة غنية بالعمق الفكري وسعة المنهج العلمي وتخرج منها آلاف العلماء الذين كان منهم بُناة للحضارة الإسلامية والإنسانية وحاملوا ألويتها، يقول ابن شهرآشوب في المناقب: (نقل عنه ـ أي عن الإمام الصادق ـ ما لم ينقل عن أحد)، وقال المفيد في الإرشاد: (لم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنه ما نقلوا عن أبي عبد الله الصادق، فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقاة على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل)، وقال المحقق الحلي في المعتبر في شرح المختصر: (انتشر عن جعفر بن محمد من العلوم الجمّة ما بهر به العقول). وقال الطبرسي في إعلام الورى: (تضافر النقل بأن الذين رووا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق من مشهوري أهل العلم أربعة آلاف رجل).

مصدر فخر العلماء

تتجلى لنا عظمة الإمام الصادق في أن أرباب العلوم كافة يفتخرون بأنهم تعلموا منه، يقول محمد أبو زهرة المصري وهو من علماء الأزهر: (ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم في أمر كما أجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه، فأئمة أهل السنة الذين عاصروه تلقوا عنه وأخذوا، أخذ عنه مالك، وأخذ عنه أبو حنيفة واعتبره أعلم الناس) (1)، ولأبي حنيفة قولته المشهورة (لولا السنتان لهلك النعمان) (2) فهو يعترف ويفتخر بهذه المقولة أن سبب شهرته العلمية هي من فضل السنتين التي درس فيهما عند الإمام الصادق.

الإمام الكاظم والمسؤولية الكبرى

قام الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) بدور عظيم بعد استشهاد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) في حمل راية العلم بتزعمه لمدرسته العظيمة ومواصلة مسيرته العلمية الكبرى والحفاظ على أهدافها ورفد أصحابها بالعلوم وجعلها متواصلة وفاعلة مع المجتمع وتصدى لحفظ هذا الإرث العظيم رغم أساليب القمع والإضطهاد التي واجهها من قبل السلطة العباسية.

فالدور الذي مارسه الإمام الكاظم بعد أبيه جعل من هذه المدرسة حية وفاعلة وزاخرة في حياة الأمة، ودلت الروايات على الدور المشترك الذي قام به الإمام الكاظم بعد أبيه الصادق في إقامة أسس ودعائم علاقة متينة بينها وبين الأمة الإسلامية والسير على نهج أبيه في زعامتها العلمية والروحية.

ورغم أن الفترة التي تولّى فيها الإمامة تختلف تماماً عن الفترة التي تولّى فيها الإمام الصادق من ناحية الجو السياسي، إلا أنه (عليه السلام) كان كفؤاً للمهمة الكبيرة المُناطة به والمنصوصة عليه في الحفاظ على أهداف هذه المدرسة ومبادئها ودورها الرسالي في المجتمع. فبعد أن قضى العباسيون على الأمويين تماماً التفتوا إلى العلويين الذين لولاهم لما وصلوا إلى الحكم بعد أن رفعوا شعار (يالثارات الحسين)، فارتكبوا بحقهم أضعاف ما ارتكبه الأمويون من الجرائم وضيّقت السلطة العباسية على الشيعة في زمن الإمام الكاظم وطاردتهم وقتلتهم.

وتدلنا رواية الشيخ المفيد في الإرشاد على مدى الرقابة الصارمة والشديدة التي مارسها بنو العباس على الإمام حيث يقول: (قال هشام بن سالم ـ وهو أحد أصحاب الإمام ـ: كنا بالمدينة بعد وفاة جعفر الصادق فقعدنا في بعض أزقة المدينة، فنحن كذلك إذ رأيت شيخاً يومئ إليّ بيده، فخفت أن يكون عيناً من عيون أبي جعفر المنصور، وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس على من يجتمع إليه الناس بعد الصادق، فيؤخذ فتضرب عنقه).(3)

كانت تلك الأساليب القمعية والوحشية وغيرها من الأساليب هي محاولات للحد من انتشار الفكر الشيعي، وإنهاء دور أئمة أهل البيت في حياة الأمة، وقد عانى كل أئمة أهل البيت من هذه المحاولات الدنيئة التي كان هدفها إحداث قطيعة بين الشيعة والتواصل مع أئمتهم، وكان الإمام الكاظم يحرص أشد الحرص على حياة أصحابه في ذلك الجو القمعي، ويأمرهم بكتمان الإتصال به عن الناس، حيث يروي المفيد أيضاً في نفس الكتاب والصفحة أنه: (ذات مرة جاء أحدهم يسأل الإمام الكاظم كما كان يسأل أباه، قال له الإمام: سل تخبر ولا تذع فإن أذعت فهو الذبح).

وهذه الرواية لا تحتاج إلى توضيح على مدى سياسة الإرهاب العباسي التي مُورست ضد الشيعة، فكان الإمام يختار لهم أوقاتاً معيّنة للإتصال به بعيداً عن أنظار السلطة وجواسيسها كما يروي الكليني في الكافي حيث يقول: (سأل أحدهم الإمام موسى بن جعفر الكاظم عن مسألة فقال: إذا هدأت الرِجل وانقطع الطريق فأقبل ....)

المخاطر والصعوبات.. والتحدي

ورغم كل هذه الأساليب القذرة التي مارسها العباسيون فإن الإمام الكاظم قام بدوره العظيم في قيادة الأمة وتحمل أعباء الإمامة وواصل السير على نهج أبيه في مسيرته العلمية، حيث رجع إليه أصحاب أبيه في أخذ معالم دينهم منه فكانوا يجتمعون عنده ويستمعون إلى علومه ودروسه ويدونونها في سرية تامة، ويروي المجلسي طريقة اجتماع الشيعة بإمامهم الكاظم والتزوّد منه في ذلك الجو الرهيب فيقول: (كان جماعة من خاصة أبي الحسن موسى الكاظم من أهل البيت وشيعته يحضرون ومعهم في أكمامهم ألواح أبنوس لطاف، وأميال فإذا نطق أبو الحسن بكلمة وأفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوا في ذلك).(4)

ونلاحظ إضافة إلى المخاطر التي عرّضوا أنفسهم لها بذلك الإجتماع المصاعب التي واجهوها في تدوين حديث الإمام، فالألواح التي يضعونها في أكمامهم من الأبنوس الأسود لا تكفي لكل ما يقوله الإمام، كما أن كمية الأميال ـ وهي شبيهة بالطباشير ـ والتي يجلبونها معهم لا تسد حاجتهم في كتابة كل ما يقوله (عليه السلام)، ولعلهم يتناوبون في الكتابة ثم تعرض هذه الألواح على الجميع ليقرأ الجميع كل ما قاله الإمام.

إشراقات الكاظم تضيء البلاد

ورغم كل هذه الصعوبات والمخاطر فقد انتشر علم الإمام بين الناس كثيراً حيث قام أصحابه بهذه المهمة، فألف الحسن بن علي بن يقطين كتاب (مسائل موسى بن جعفر)، وكذلك بكر بن الأشعث، وقد روى عنه (عليه السلام) كثير من أهل بيته وشيعته، منهم أخوه علي بن جعفر الذي كان شديد التمسك به والإنقطاع إليه، وقد روى عنه كثيراً من المسائل كما روى عنه ولده عبد الله بن موسى بن جعفر، ومن الذين رووا عنه محمد بن عمير, والحسن بن بشار المدائني وغيرهم وقد أورد النجاشي في كتابه (الرجال) طائفة كبيرة من أصحاب الإمام الذين رووا عنه، كما أورد الطوسي في (الرجال) أيضا أسماء (46) رجلاً ممن رووا عن الإمام الكاظم وأورد عن بعضهم معلومات لها أهميتها لمن يدرس جهود الإمام الكاظم ميدان العلم.

ولم يتقتصر نشره للعلم على أصحابه في تلك الظروف الصعبة والشديدة الخطورة بل إن أنوار علومه اخترقت جدران سجنه، فقد روى النجاشي ما نصه: (كان إبراهيم المروزي، مؤدب أولاد السندي بن شاهك الذي أوكلت له رقابة موسى بن جعفر الكاظم في السجن ببغداد، يروي الحديث عن موسى الكاظم (عليه السلام) وألف كتاباً ضمنه ما سمعه من أحاديث الإمام وهو في السجن). (5)  

.................................................................

1ــ الإمام الصادق  ص 66

2ــ اليافعي ــ مرآة الجنان وعبرة اليقظان ج 1 ص 238

3ــ الإرشاد ص 272

4ــ البحار ج 12 ص 278 فقد روى النجاشي في كتابه

5ــ الرجال ص 319