دروس من العبد الصالح.. يوم في حياة الإمام الكاظم عليه السلام

هيلين عبد الله

ان الحديث عن التاريخ المشرق لآل البيت (عليهم السلام) من أجمل ألوان الحديث، والكلام عن السيرة العطرة المضمخة بأريج ذكرهم (سلام الله عليهم) من أعذب أنواع الكلام، وكيف لا وهم حملة اسرار الشريعة المقدسة وقادة الاسلام العظام.

إن دخلَ المؤمن ساحة حياتهم ازداد يقينا وتألقا، واتسع أفق مضمونه الروحي ورقا، فما أروع أن نبحر في بحار أنوارهم، ونطلع على مضامين سيرتهم، ونغترف من سنا اشراقهم، ونحلق في سماء قدسهم؛ لنتخذ من مواقفهم ونهج حياتهم زادا لنا في الحياة، نصل به ومن خلاله إلى حيث السعادة الدائمة والنجاة.

وهنا سنآخذكم في رحلة إلى يوم من أيام الامام الثامن من الائمة الاطهار الاما موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام)؛ علنا نقتبس شيئا من ضيائه وهديه النابض بالحب والعطاء والسلام، فنتحرك على بينة، بنفوس تتطلع إلى الخير مؤمنة، متخذة من آل البيت عليهم السلام في السعي والكدح أسوة وقدوة حسنة.

سنآخذكم إلى يوم كتب الله تعالى فيه لبشر، البشرى والخير، على يد راهب آل محمد (عليهم السلام) في ذلك اليوم كان الإمام الكاظم عليه السلام يجتاز زقاقا يعيش بعض أهله الغفلة والفتنة والظلام، ولا عجب فقد ضاعت تعاليم الإسلام. وتلاشت مواعظ الأنبياء واستاثر بالحكم على مدار الأعوام طغاة لئام، بثوا أكاذيبهم بعد أن قاموا بتنحية أهل البيت عليهم السلام عن مقاماتهم، وسجنهم وتعذيبهم، بل وعمدوا إلى تنشئة الأجيال على بغضهم، والتفاخر بسبهم ولعنهم على منابرهم ، حتى هرم على ذلك الكبير وكبر الصغير، ولكن ورغم كل ذلك فقد كان لهم سلام الله عليهم نورهم وحضورهم الممتد امتداد الرسالة وضيائها المنير.

 فما حضروا في مكان إلا وتألق بالنور، وما احتواهم زمان إلا وكانوا للأرواح غيث رحمة واسعة تمحو بتدفقها ما ران على الصدور، وتعيد للنفوس المستعدة بريقها الذي فقدته في صراعها مع النفس والشيطان وكأنها شلال ضوء ينير العتمة ويغسل الأرواح بماء طيب طهور، بإذن الله الودود الغفور.

وهذا ما حصل مع بِشرْ الذي كان بعيدا عن الله تعالى ونهج الإسلام، ولكن شاء سبحانه أن يضع في طريقه عبده الصالح موسى بن جعفر عليه السلام، كان إمامنا صلوات الله عليه يمر قريبا من دار بشر، وتناهى إلى سمعه أصوات الغناء والطرب المعرب عن الانحراف المر، وبينما هو يقطع الطريق متأسفا فتحت باب ذلك البيت وخرجت جارية تحمل بيديها القمامة، فتأملت في رجل عليه سيماء الصالحين وتسطع من جبينه أنوار الإمامة، وقف سلام الله عليه عند الباب ليسألها سؤالا كتب له أن يغير حياة بشر ويكون للمتأملين على إمتداد الزمن منارا وعلامة، قال فدته النفوس: يا جارية صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ فأجابته على الفور: بل هو حر.

فهمس بصوت يشوبه حزن وألم: صدقت لو كان عبداً لخاف من مولاه!".

ومضى الإمام عليه السلام في طريقه بخطوات هادئات، فيما بقيت الجارية تنظر مذهولة وهي تحاول فك رموز تلك الكلمات، وما تنطوي عليها من أسرار واحجيات.

دخلت الجارية الدار على حالتها؛ لتقص على سيدها ما جرى معها، وكما يضرب الزلزال الأرض فتتناثر ذرات التراب، كانت هذه الكلمات تطيح في أعماق بشر كل الصروح المظلمة فأسرع مهرولا نحو الباب...

مضى يطوي المسافات باحثا عن مصدر النور والضياء، يبحث عن رجل يحمل هموم المرسلين وتراث الانبياء، ها هو يراه من بعيد كأنه غيث السماء للأرض التي أضر بها الجدب وحنت إلى هطول المطر و قطرات الماء، وتوقف الإمام عليه السلام ليرى بشرا وقد غرق بدموعه، جثا الحافي عند قدمي الإمام عليه السلام وأبدى كامل احترامه وخضوعه، وكانت آهاته وعبراته تترجم ما حل بقلبه من تغيير، وتتكلم دون حروف لتعرب عن امتنانها لهدية الرب القدير، الذي بعث له بوليه لينقذه من حر السعير، ويأخذ بيده إلى محال الخير وينابيع النور.

ومد الإمام عليه السلام يده ليمسح على رأس العائد الى رحاب الله تعالى بعد طول صدود، وبين له كيف يمكن أن يستقيم فلا ينحرف مجددا ولا يعود إلى منكر حتى يوم الورود.

كان بشر قد فتح مسامع قلبه لتلقي هذا الفيض العظيم، كانت دموعه تجري بحرقة أسفا واعترافا في محضر الرب الكريم، فاطفأت دموع الندم نيران الإبتعاد عن ساحة اللطف الإلهي، وفتحت نوافذ النور في قلب ذلك العبد لتحوله إلى تائب تقي، نعم لقد تحول حاله فصار من أهل الإيمان واشتهر بالزهد والعبادة والإحسان, ببركة الإمام الكاظم عليه سلام ورضوان الرب المنان.

البُشر وأمثاله الذين استمعوا إلى حديث سليل المجد موسى بن جعفر عليه السلام وهو يقول: " كفى بالتجارب تأديبا، وبممر الأيام عظة، وبأخلاق من عاشرت معرفة، وبذكر الموت حاجزا من الذنوب والمعاصي، والعجب كل العجب للمحتمين من الطعام مخافة الداء ان نزل بهم، كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار إذا اشتعلت في ابدانهم".

نستنتج من قصة الامام موسى الكاظم (عليه السلام) مع بشر دروس كثيرة منها:

* الدرس الاول: ان الدعوة إلى الله تعالى والدلالة عليه هي من أشرف الأعمال وأفضلها، والنصيحة لخلقه وهدايتهم من أزكى الأفعال واجلها، ولا بد لمن أراد أن ينصر دينه ويمهد الأرض لقيام إمام زمانه أن لا يغفل عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

* الدرس الثاني: عدم التعلل بالاعذار والاستمرار في هداية الناس ونصحهم مهما كانت حالهم، فالإمام عليه السلام لم يترك ذلك رغم القرائن التي تؤكد على ضلال صاحب الدار وسوء ما وصل إليه حاله!.

* الدرس الثالث: عدم اليأس والإحباط من استشراء الضلالة والانحراف فالسعي من نصيب العبد والتوفيق بيد الله تعالى، لذلك لا بد أن نواجه الواقع مهما كان سيئا غارقا في الوحل، متسلحين بالأمل ومتكلين على الله عزّ وجل.

* الدرس الرابع: أسلوب العلاج الرائع الذي استخدمه  الإمام سلام الله عليه مع الجارية فلم ينكل ولم يستهزئ ولم يسئ بل كان كلامه مختصرا مفعما بالمعاني الرائعة التي لا يختلف فيها اثنان، فالعبد لاريب يستحي من مولاه ويخافه ويخشاه، وإلا فعليه أن يعود الى نفسه ويتأكد من صدق دعواه.

* الدرس الخامس: نتعلمه من بُشر الذي تخلى عن عالمه الذي ألفه لسنوات، واختار طريقه بوعي بعدما أبصر فيه الالطاف والرحمات، وكأنه يقول لنا: لا يأس ولا قنوط ولا ضياع، مهما افترستكم في طريق الضلال الضباع، فالرب الكريم يفتح الآفاق لمن أتاه، ويمحو عنه ما أبعده وارداه، فهو الله وكفى بأنه الله.