!!الاستشراق الأمريكي.. لا شيء غير الذهب الأسود

الدكتور هاشم الموسوي

هل من قبيل المصادقة ان تلتفت السياسة الخارجية الامريكية إلى أهمية الشرق المسلم ودوره الكبير والحيوي في مستقبل الأمبراطورية الأمريكية منذ تاريخ تأسيس الولايات المتحدة  وبروزها كدولة قطبية مهيمنة بعد الحربين العالميتين (الأولى والثانية)؟

وهل يمكن أن نمر مرور الكرام على الدعم الكبير الذي قدمته الحكومة الأمريكية ومؤسساتها المالية الكبرى إلى (مركز دراسات الشرق الأوسط) المرتبط بالسياسة الأمريكية مباشرة والمستقدِم والموظِّف لباحثين أفنوا عمرهم في خدمة المصالح الأمريكية ابتداء من المؤرخ اللبناني (فيليب حتي) مرورا بـ(هاملتون جب) المتخصص بالدراسات الاسلامية، و(جرنباوم) وانتهاء بالمستشرق (برنارد لويس) المعروف بعرّاب  الربيع العربي، هذا الربيع المثير للإشكالات والمخاوف والمسؤول عن إثارة الفتن والنعرات العرقية والطائفية المقيتة؟

وبالعودة إلى الوراء قليلا وفي سنوات ما يسمى بالحرب الباردة فإن العدو الأبرز للأمبراطورية الأمريكية هو الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية المرتبطة به سياسيا واقتصاديا، وقد اعتمدت الولايات المتحدة سياسة الاحتواء (العسكري والاقتصادي والسياسي) لدرء الخطر الشيوعي، من خلال تحديث الأسلحة والوصول الى التفوق في الردع العسكري لحلف (الناتو) الذي تقوده أمريكا، ومن خلال التشويش على الأفكار الشيوعية وفضح سلبيات النظام الاشتراكي في السياسة والاقتصاد ودعم الدول الساعية لتغيير سياستها الاشتراكية، وهو ما نجحت فيه أمريكا من خلال تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1991م وطرح نفسها كقدوة سياسية بلا منازع لقيادة النظام العالمي الجديد.

وبعد سقوط العدو الأبرز لأمريكا كان لا بد من إيجاد عدو جديد أكدته الأحداث المشبوهة ليوم 11 سبتمبر من خلال تهيأة الرأي العام الأمريكي لمطارحة هذا العدو الجديد المتمثل بـ(الارهاب العالمي) المستدعي لمبدأ صياغة شرق أوسط جديد، تتغير فيه الخرائط القديمة وفق المصالح الأمريكية التي من أولوياتها (حفظ أمن اسرائيل) و(ضمان تدفق النفط) بأسعار تقررها أمريكا، خصوصا وإن منطقة الشرق الأوسط الممتدة من باكستان شرقا وحتى موريتانيا غربا ومن أذربيجان شمالا وحتى الصومال جنوبا تحوي على ما يزيد عن ثلثي المخزون العالمي من الذهب الأسود.

خطر الإرهاب العالمي الذي صبغته مراكز الاستشراق الأمريكي بنعوت عديدة منها (الخطر الأخضر=لون الاسلام) و (الراديكالية الاسلامية) و(الإسلام الشوفيني) وغيرها من المسميات التي حصرت العدو القادم بالاسلام والمسلمين دون غيرهم استدعى وسائل أمريكية عديدة للدفاع عن المصالح منها (الحرب الاستباقية) القائمة على مبدأ الضرب عند أول بادرة شك بحجة عدم السماح لتكرار سيناريو 11 سبتمبر-أيلول، وكانت مغامرة احتلال العراق بعد افغانستان ثاني هدف (استباقي- وقائي) تعلنه الحكومة الأمريكية عام 2003م بدعم وموافقة مراكز القرار الاستشراقية الطابع...

لم تستطع القوة الأمريكية الهائلة من فرض انموذج ديمقراطي بشّر به الاستشراق الأمريكي الذي حث الساسة الأمريكان على دخول العراق لـتأسيس نموذج تحتذيه بالإكراه وبتأثير الديمقراطية (الملعونة) كل من إيران وسوريا لاحقا؛ وهما الدولتان اللتان أدخلتهما السياسة الأمريكية ضمن محور شر واحد ودعت علانية إلى تغيير أنظمتهما المعادية للسياسة الأمريكية في المنطقة والمناهضة لإسرائيل وهضمها لحقوق الشعب الفلسطيني المظلوم.

 وخلافا لتوقعات الاستشراق وللقوة العسكرية الموجهة بإشاراته وإرشاداته ظلت الساحة العراقية تغلي لسنوات وتهدر وتموج بنزاعات مختلفة داخلية يستهدف بعض قواها البعض الآخر بتشجيع امريكي لتشتيت جهود أية مقاومة شعبية مشتركة، وأخرى تستهدف قوات الاحتلال التي اقتنعت أن جحيم العراق أسوأ من جحيم فيتنام.

يجمع رموز الاستشراق الأمريكي كـ(جليدن) و(باتاي) و(لافين) على ضرورة تكرار صور نمطية عن العرب والمسلمين في كل وسائل الاعلام المتاحة للشعب الأمريكي، وهي صور مدورة عن الذهنية الاستشراقية الاوربية، وتمثلت هذه الصور بكون العرب ظلوا أسرى مجتمع قبلي قاسي (أبوي) يؤمن أفراده بأحقية أن يقوم بعض الأشخاص من بني جنسهم باستغلالهم مما يستدعي أن الغلبة في طبيعة نظامهم الاجتماعي والسياسي ستكون للأوتوقراطية (حكم الأقلية) وليس للديمقراطية (حكم الأغلبية) وأن الصفة السائدة على سلوكهم كأفراد وجماعات ستكون للهدم عندهم بدلا عن البناء، وللإتلاف بدلا من الإبداع وللخصومات والفرقة والتناحر بدلا من الوحدة!!!

ويبالغ (برنارد لويس) عرّاب الخريف العربي وأحد مؤسسي فرع دراسات الشرق الاوسط في امريكا عندما يفسر موجة العداء ضد أمريكا من قبل المسلمين عازيا ذلك إلى حقد دفين وغير عقلاني على الحضارة اليهودية- المسيحية، وهو حقد سيزداد بمرور الأيام ليتحول إلى صدام حضارات تكون الغلبة فيه للعالم المتحضر (أمريكا وأوربا) بطبيعة الحال!! متناسيا أن السياسة الأمريكية هي التي استحضرت مارد الثورة الأصولية الإسلامية من قمقمه لمواجهة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان أولا ولملء الفراغ عند سقوط الروس، وانتهاء ما يسمى بالحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفيتي إلى دويلات ثانيا..

إن الصور النمطية التي نشاهدها كل يوم في الشاشات التلفازية الأمريكية ابتداء من أفلام الكارتون مرورا بالأفلام السينمائية المسيئة للعرب والمسلمين وانتهاء بتركيز شبكات التلفزيون الأمريكي على الإرهاب والصراع الطائفي كل ذلك يغذي التصور المسبق عند الأمريكيين ويقدم الشعوب الاسلامية على أنها شعوب دموية لا يشغلها الا القتل والسلب ومنظر الدماء، ولا تقل الصورة التي يتناولها الأدب الأمريكي المكتوب عن تصوير العرب والمسلمين على أنهم قساة سفاحين أو شيوخا شرهين متعطشين للدماء والملذات!!!

وكان للاستشراق الأمريكي الدور الأكبر في صياغة هذه الأفكار وفي قولبة هذه الصور، فهذا (لويس برنارد) الحقود على كل ما هو عربي ومسلم وعلى كل ما هو شرق أوسطي يكتب في ثمانينيات القرن الماضي: لدى العرب حقد دفين، وهم شعب متفسخ متوحش تحكمهم عقيدة نزعت عنهم كل طموح إنساني، وإننا كأمريكيين نتعامل مع مجتمع مجنون خارج عن الطوق وعن الأعراف الانسانية وعلينا أن نتعلم كيفية حكمه وقيادته لا من أجل مصالحنا فحسب وإنما من أجل مصالح البشرية جمعاء!!!

لقد قالها (برنارد) هذا الحقود الأفاك المجبول على بُغض كل ما لا يوافق هواه المريض (علينا أن نحكمه من أجل المصالح) إنها المصالح والكنوز والذهب الأسود الذي أودعه الله في باطن أراضي المسلمين ليكونوا به ومن خلاله أسياد الدنيا وقادة العالم، لو احتكموا للعقل ونبذوا الفرقة وعرفوا صديقهم من عدوهم حق المعرفة، وأقاموا لهذه المعرفة الواجبة واللازمة المعاهد ومراكز البحث كما فعل هو عندما انطلق من مبدأ (المعرفة قوة) فهذه الخيرات والكنوز التي حبانا بها الله من دون الأمم، وهي رزق الأجيال من أحفادنا، ومصدر رفاهيتنا وعيشنا الرغيد جديرة بأن تحفظ وتصان من كل عاتٍ متجبر لا يقيم لحدود الله وزنا، ولا يجيد غير لغة القوة التي يمتلكها ونفتقر اليها...