-

محمود قنديل/ مصر

ثمَّة اتفاق بين المعاجم العربية على أن "الصبر" نقيض الجزع وهو يعني الجلد والتحمل وحبس النفس عن الجزع، والصبر أمر من الله جاء في كثير الآيات (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) و (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) ولقمان يحث ولده على الصبر (وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)، ويوجه سبحانه وتعالى حديثه للنبي (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) ويقول في موضع آخر (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) ويزيد (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ).

ومادام الله عز وجل أمر بالصبر فهو - إذًا - لا يخرج عن مقدرة الإنسان واحتماله وسعة نفسه (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، فغياب "الصبر" عن النفس البشرية يدفع بها إلى اليأس والقنوط، في حين أن رحمة الله وسعت كل شيء، وأن مع العسر ـ دومًا ـ يسرًا، والله يأمُر (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) لأن القنوط قد يؤدي إلى فعل أي شيء يخالف الأمر الرباني، وهو ما نهى سبحانه عنه، فالله (الخالق) يريد لعباده (المخلوقين) الحفاظ على شرائع السماء، وقوانين الأرض المستمدة من كلمات الله، فلا فساد بحجة الجزع من البلاء الواقع، ولا تخريب تحت ذريعة مصيبة حدثت، ففي كل الأحوال يبقى الامتثال لأوامر الله واجبًا للحفاظ على النفس والأرض والعِرض وكافة الحقوق الممنوحة للكافة.

فالاعتراض على بلاء الخالق لا يفيد، والتمرد على ما كتبه الله لا ينفع، وفي الصبر والتصبر نجاة ورفع للمَصاب، فالمحنة - حتمًا - سيتبعها منحة وبشارة لمن التزم بطاعة الله (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) وهي بشارة مطلقة من الحليم الكريم والعفُّو الرحيم، وما ساقه القرآن من أمثلة للبلاء لتؤكد على عِظَم ما يمكن أن يقع للإنسان (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) فالخوف يشل حركة الخائف ويجعله في حيرة من أمره ويقوقعه ويُلْحِق به الأذى النفسي، والجوع ينال من مقومات حياة الإنسان في الأرض ويهدده بالموت، ونقص الأموال يُضَيِّق عليه عيشه ولا يأمن يومه ولا غده، ونقص الأنفس يسبب حزن عميق وأسى لمن يفقد الأعزاء والأحباب من الزوج والولد والأهل، ونقص الثمرات يضرب المستقبل الغذائي في مقتل، وكلها مصائب قد تعترى أى مجتمع، والصبر عليها شعيرة كبرى جزاؤها عظيم وأجرها كبير، شريطة التسليم بأمر الله، والتماس الأسباب إلى تجاوزها، والتوكل على الله لا التواكل، والجهر بكلمات القداسة (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ليحظى بصلة الله ورحمته، حيث أنه بهذا الجهر والإيمان به - قلبًا وقالبًا - يصبح بشهادة القرآن من المهتدين  (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون).

والصبر يتطلب كثرة التسبيح معظم الأوقات (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) و (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) فالتسبيح يعين على الاحتمال وقبول المصاب أيا كان نوعه، لأن المؤمن الحق يعرف أن كل ما يصيبه هو له (لصالحه) وليس عليه (انتقامَا منه) (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا).

والاستعانة بالصلاة بجانب الصبر تُدخل المسلم في معية الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، والصبر قرين التقوى في مجابهة الأعداء وتدبيرهم (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا).

ولا ننسى أن الأجر الذي ناله أيوب (عليه السلام) جزاء صبره كان عظيمًا، فقدْ فَقَدَ كل ما يملكه بأرض حوران بالشام، ومرض مرضًا أبعد الناس عنه مخافة العدوى، ومات أهله، ولما طال زمن البلاء تضرع إلى ربه (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وهو دعاء فيه حياء فلم يقل اشفني وعافني، بل ترك أمره لأرحم الراحمين، فأدركته الرحمة (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) ليكشف الله ما به من ضر، بل وأحيا له من مات من أهله ووهب له مثلهم لأنه كان عابدًا للمولى بحق (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ)، ويكشف القرآن عن بسبب رفع البلاء عن أيوب النبي (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ) فبجانب الصبر وأيوب في غمرات المحنة لم يكف لسانه عن ذكر الله والرجوع إليه.

وحقيقة مراد الله من الابتلاء، أنه يمحص المؤمن بهدف اختبار صدق إيمانه بقضاء الله وقدره (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ).

ثم إن "الصبور" من الصبر، وهو اسم من أسماء الله الحسنى كما ورد بأحاديث الرسول التي تؤكدها آيات الذكر الحكيم، وهو يعني إمهال الله لعباده العاصين (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى) ويقول سبحانه: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)، ويقول عز وجل ( وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ).

إن إمهال الله لخلقِه إنما يهدف إلى منح المزيد من الفرص لعل العبد يعود إلى نورانية المعبود، بتوبة صادقة واستغفار جَم.

ويحفل قرآننا العظيم بلفظ (الصبر) ومشتقاته لما له من أهمية في كونه أحد مقومات بقاء الإنسان وهو يخطو على البسيطة بشرائع خالقه، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر) و(اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا)، (وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) و(اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا)، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه).

إننا إزاء لفظة يسيرة (الصبر) لكنها عند الله كبيرة، وجزاء الصبر يمثل منحة ـ بعد محنة ـ يهبها الله لعباده الصالحين الصابرين.