في ذكرى شهادتها.. السيدة زينب (ع) صائغة الإعلام الحسيني

الحسين أحمد كريمو

صار معلوماً لكل ذي فكر نيّر وايمان صادق، بل فطرة سليمة ان النهضة الحسينية هي نهضة إلهية، بعد أن ثبتَ ان الامام الحسين (ع) صناعة إلهية بامتياز.

ولسنا نبالغ إذا قلنا بأن السيدة زينب (ع) هي التي صاغت الاعلام في النهضة الحسينية الإلهية لأنه لولا التخطيط والرعاية الربانية لها، لماتت واندثر أثرها منذ قرون خلت، كما اخلق وأبلى الزمان آلاف الحضارات والثورات وحتى الرسالات السماوية من قبلها ..

إلا ثورة الامام الحسين (ع) فيصدق عليها، قول الشاعر:

كذب الموت فالحسين مخلد  ***  يبقى على مر الزمان يجدد

لأن ثورة الإمام السبط سيد الشهداء (ع) هي ثورة دين، ورسالة نهضة ربانية بكل تفاصيلها، وهي رسالة الإسلام المذبوح بأيدي المارقين من الدين..

هي ثورة الدين المُقطَّع بأيدي الآثمين الذين انتسبوا للدين والدين يلعنهم..

هي نهضة القرآن المبضّع بسكاكين الجهل (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ) (الحجر:91).

هي بعثة الأمة التي خدّرها النفاق الأموي، والدجل السلطوي باسم الدين..

هي إحياء الحبيب محمد (ص) من جديد في الحياة ليعيد الدين والقرآن والإسلام والإيمان للحياة بقوة المنطق لا بمنطق القوة.. وبسلطان البرهان لا ببرهان السلطان.. وكتَبهُ بدم طاهر زكي على جبين الأيام والليالي الحالكة فأنارتها بنورها القاني..

ولذا هي تأبى أن تنطفئ مهما نفخت أبواق الضلالة، ومهما تطاولت أعناق أبناء الجهالة، ألم يقل ربنا سبحانه ذلك: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة: 32)

وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف: 9)

وهنا اللافت في القضية؛ إذ كيف يطفئون النور بأفواههم؟

فهل تنطفئ الشمس بنفخ إبليس عليها؟

أو يخمد نور القمر بنفث الشياطين عليه؟

وهذان خلق من خلق الله، وآيتان من آياته النيّرة.. فهل يُمكن أن يُخمد نور الله بنفخ الأفواه ونفث الصدور؟

بكلمة واحدة نقول: الإعلام المنافق، يُريد اسكات كلام الله الصادق..

وإذا عرفنا بأن الناطق بكلام الله هم الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته الأطهار (ع) الذين هم المبلغون عن الله ورسوله كما قال رسول الله (ص) لأمير المؤمنين بحادثة تبليغ تسع آيات فقط من أول سورة البراءة، قال له: (لا يبلغ عنّي إلا أنا أو رجل مني).

وأمير المؤمنين في يوم صفين، قال لهم: (هذا كتاب الله الصامت وأنا كتاب الله الناطق أفسره لا يفسرني).

وإذا قاطعنا هذا الكلام النيّر بكلام الله المنير في سورة الإسراء المباركة التي يقول بها ربنا سبحانه: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) (الإسراء: 60).

يقول العلماء والأعلام في تاريخ القرآن كما في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني فلان (أمية) ينزون على منبره نزو القردة فساءهُ ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات فأنزل الله) (الآية).

وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أريت بني أمية على منابر الأرض وسيتملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك فأنزل الله تعالى (الآية).

وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي (ع): (أن رسول الله أصبح وهو مهموم فقيل: ما لك يا رسول الله؟

فقال: (إني أريت في المنام كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا...)

وفي تفسير البرهان، عن كتاب فضيلة الحسين (ع) يرفعه إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رأيت في النوم بني الحكم، أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة).. فأصبح كالمتغيِّظ فما رؤي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستجمعاً ضاحكاً بعد ذلك حتى مات).

وفي الدُّر المنثور، أخرج ابن مردويه، عن عائشة: (أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن).

وروى الزبير بن بكار في الموفقيات، عن المطرف بن المغيرة بن شعبة، قال: دخلت مع أبي على معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدث معه، ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا..

فقلت: مالي أراك مغتما منذ الليلة؟

فقال: يابني، جئت من أكفر الناس واخبثهم .

قلت: وما ذاك؟

قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت سنّاً يا أمير (المواطنين) فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً فانك قد كبرت، ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه؟

فقال (معاوية): هيهات هيهات! أي ذكر أرجو بقاءه؟ ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره إلا أن يقول قائل: أبو بكر.

ثم ملك أخو عدي (عمر)، فاجتهد وشمَّرَ عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر.

وان ابن أبي كبشة،  ليُصاح به كل يوم خمس مرات (أشهد أن محمداً رسول الله) فأي عمل يبقى؟ وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟ لا والله إلا دفنا دفنا).

وروى المدائني في كتاب الأحداث، قال: كتب معاوية نسخة واحدة الى عمّاله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممّن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته.

فهؤلاء الذين يريدون اسكات صوت الله في الأرض، وإطفاء نور الله في الحياة، فهم المصداق الأجلى والأبشع لذلك، وكل بوق أو منافق يساعدهم وينادي بندائهم ويعمل في دواوينهم، ويسير بركابهم هو معهم بلا شك ولا ريب..

فهذه هي أبواق الضلال وأفواه الإفك التي تريد إطفاء نور الله في الحياة، ودفن ذكرهم في الذاكرين ولكن الله يأبى لهم ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية، ونفوس أبية.. هكذا قالها الإمام الحسين(ع)...

فإعلام الضلال يريد أن يطفئ الحق بالكذب والدجل والإفك..

وإعلام الحق يريد أن يرفع راية الله بالصدق والحق والإخلاص..

رسالة السيدة زينب (ع)

وتلك هي رسالة سيدتنا زينب (ع) فيما بعد عاشوراء الفاجعة، بحيث أنها رفعت الراية منذ أن ارتفع رأس أخيها وإمامها الحسين (ع) على رأس رمح طويل يرتّل آيات القرآن الحكيم..

فأعلنتها صرخة مدوية (يا حسين) وراحت تدوي في السماء والأرض، وتناقلتها الأزمان وتوارثتها الأجيال إلى أن وصلت إلينا في هذا العصر الذي أذهلت العالم بتلك الصرخة التي انطلقت من فوق التل الزينبي في يوم عاشوراء..

فالسيدة زينب (ع) تربت من أجل نهضة الإمام الحسين (ع) ورافقته من أجل أن تسبى ولكنها بذلك السبي فعلت أمرين اثنين هما:

أولاً: نقلت الفاجعة بكل تفاصيلها وتركتها إرثاً للأجيال

إذ أن أي حادثة تاريخية تحتاج إلى راوي يرويها، ووثيقة لتكون شاهدة على صدقها وعاشوراء حملتها السيدة زينب (ع) إلى كل مكان وطأته فكانت تروي ما جرى بالتفاصيل الدقيقة من لحظة ارتقاء الإمام الحسين (ع) ووقفت على جسده المقطع صرخت بابن سعد الخبيث: (أي عمر أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه) فانصرف عنها وهو يكفكف دموعه بكمّه..

وأما الوثائق فكانت تحملها معها وتترك في كل محل ينزلون به أثراً مازال قائما إلى اليوم من الكوفة إلى خانقين إلى حلب وحماه وبعلبك وحتى دمشق، لها آثار واضحة تشهد للعالم والتاريخ أنه من هاهنا مرت السيدة زينب(ع) والسبايا من بيت النبوة..

وبما أنها حاملة رسالة سماوية فهي بحاجة للمعجزة أحيانا، فكان رأس الإمام الحسين (ع) هو المعجزة في كل منزل بحيث يتلو القرآن وغير ذلك من معجزاته..

فالسيدة زينب أرَّخت يوم عاشوراء قولاً وفعلاً بروايتها وخطاباتها المتكررة وبآثارها الطيبة التي نشرتها في المنازل التي مرت بها في طريقها ورحلتها المفجعة..

ففي كل منزل نزلوا به تركوا أثراً مازال حياً وشاهداً إلى يومنا هذا من مشهد حلب ونقطته وسقطه المحسن، وحتى حماه ومقام الإمام زين العابدين، وإلى بعلبك ومشرفتها وحتى خربة الشام وسيدتنا رقية الشهيدة على فم أبيها ورأسه المبارك..

كما أن شواهد السيدة زينب هم أكثر من ثلاثين ألف الذين حضروا المعركة ونقلوها بكل تفاصيلها وبأدق الدقائق وأبسط الكلمات وحتى الهمسات وهذا من مميزات معركة عاشوراء في التاريخ كله حيث كان المجرم ينقل تفاصيل الجريمة التي ارتكبت في ذلك اليوم الأغبر..

ثانياً: صاغت الإعلام الحق وصبغته بدم الحسين (ع)

وذلك لأن التاريخ في كل الأزمان وفي كل الحضارات يكتبه الملوك والحكام والسلاطين.. فأرادت أن ترسخ تاريخ الثورة الحسينية بنفسها الشريفة، بعد أن خطه بدمه الزكي على رمال كربلاء اللاهبة.. لتكتب الأجيال بعدها تاريخ الشهيد المظلوم والطبقة المحرومة معه..

فتخرج التاريخ من أيدي الحكام الظلمة وتضعه بين يدي الثوار وطلاب الحق في كل جيل من أجيال الأمة بل والإنسانية..

وبما أن الوسيلة الرائجة في تلك العصور كان المنبر الذي نقله جدها رسول الله (ص) الى المسجد فاستغله صبيان النار وزبانية بني أمية وراحوا ينزون عليه نزو القردة كما في الرؤية النبوية الصادقة..

فأرادت أن تعيد المنبر لأخيها كإرثاً إعلامياً من جدها وأبيها لأنهما خير من ارتقى منبراً وخاطب الناس من فوق أعواده.. فخطبت في المحافل التي يصعب عادة على الرجال الأشداء الكلام والحديث بها..

فتكون قد صبغت المنبر الرسالي بدم السبط سيد الشهداء (ع) ولفَّت منابر المسلمين بالسواد، وصار منبر الحسين (ع) منذ أن تكلمت السيدة زينب (ع) باسمه المبارك يحمل للأجيال معنى العزة والكرامة والإباء.. لأنه حمل صرخة الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء (هل من ناصر ينصرنا، هل من ذابٍّ يذب عن حرم رسول الله)، ورفعت راية (يا ثارات الحسين) وسلمتها بيد الأمة الإسلامية فتناقلتها جيلاً بعد جيل..

وها نحن نعيش وقد رأينا بأم العين الرايات الحسينية المباركة وقد لفّت العالم بأسره، وهي كلها من بركات منبر السيدة زينب (ع).

عاشوراء أنتجت نهج المقاومة الذي نعيشه بكل تفاصيله.. وأعداء عاشوراء أنتجوا نهج الوهابية من آل سلول والدواعش والنصرة (الكسرة) وكل هذه القطعان الصهيو وهابية في هذا الزمن الأغبر، فهؤلاء أبناء أولئك الذين قالوا يوم عاشوراء: (اقتلوهم وحرقوهم ولا تبقوا لأهل هذا البيت أحدا...)

تلك هي رسالة السيدة زينب (ع) التي حملتها للأمة الإسلامية.. وما كلماتها وخطبها ومواقفها التي تحيِّر العقول وتوقف القلوب إلا من هذه الرسالة الإعلامية للنهضة الحسينية الإلهية.