!الخارجون عن النسق

د. هاشم الموسوي

لم يكن الاستشراق خاضعا بالمجمل للعبة الاستعمارية الغربية وأحابيلها، فقد خرجت مجموعة كبيرة من المستشرقين عن النسق الفكري المتحكم في العجلة الاستعمارية، وباتت هذه المجموعة تحاول الاشتغال لمصلحتها الخاصة ولحبها للحقيقية وحدها متحملة بذلك مواجهة ظروف العيش الصعبة في ظل الابتعاد عن الرابط الاستعماري (الحكومي) الذي يمول أنشطة الاستشراق في أوربا ويغدق العطاء للمشتغلين في هذا المجال على ضوء الاهداف والغايات المرسومة سلفا.

ففي كتابه (ماذا فعل الإسلام لنا؟) يبقى مؤلفه الايرلندي (تيم والاس ميرفي) واحداً من اكثر المستشرقين عدلا وإنصافا وتعصبا للموضوعية والحقيقة في طرحه العلمي وهو يحاول أن يبين أثر الإسلام على الحضارة الغربية، ورصد تأثيره المعرفي والحضاري فيما وصلت اليه حضارة أوربا من انجازات يصعب الوصول اليها بعدم وجود حلقة الوصل الحضارية الإسلامية هذه.

 وتكمن أهمية الكتاب في أنه كتب بعد غزو أفغانستان والعراق، وهي المرحلة التي أخفق فيها الحوار الاسلامي الغربي وظهر فيها كثير من ردات الفعل من المسلمين إزاء الغرب، كما ظهر فيها كثير من المؤلفات والجهود المؤسساتية الغربية التي تطعن الاسلام جهارا وعلنا، فيما يأتي هذا الكتاب المنصف بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.

يجعل ميرفي من ظاهرة عدم الثقة بين الاسلام والغرب قاعدة ينطلق منها لتفحص هذه العلاقة الملتبسة، والتي لا تميز علاقة الغرب بالإسلاموحدهما، بل هي ظاهرة تكاد تكون ملازمة للأديان السماوية الثلاثة في رسم علاقاتها الداخلية مع بعضها البعض، وحين يسأل نفسه كيف تدنت العلاقة بين الغرب والاسلام الى هذا المستوى الخطير؛ فإنه لا يجد جوابا سوى أن الغرب هو المسؤول الأول عن هذا التدني، لا في اللحظة الراهنة وإنما على امتداد التاريخ، فالمسلمون كانوا لا يمانعون من تحاور الأديان السماوية الثلاث حينما حكموا إسبانيا وعاشوا قرونا في تناغم وانسجام وتوادد مع اليهود والنصارى كما هو مثبت تاريخيا وباعتراف الأوربيين أنفسهم في وثائقهم التاريخية، بينما كانت أوربا بعد تمكنها من زمام السيطرة بدأت تصور هؤلاء المسلمين على انهم برابرة وغزاة متوحشون يجب القضاء عليهم والتخلص من شرورهم.

وحينما كانت أوربا تغط في ظلامها الدامس في العصور الوسطى، كان المسلمون الذين أمرهم قرآنهم وحثهم نبيهم على تحصيل العلم واحترام الحكمة ينيرون دروب الأرض، وإن الغرب الذي يتشدق اليوم –كما يقول ميرفي- في التباهي بالإنجازات العلمية واحترام حقوق الانسان يتناسى أنه إنما أخذ أصول هذه الأشياء من علماء المسلمين الذين لا يعارضون أخذ الحكمة عن أي مصدر إنساني تصدر عنه، لا كأوربا التي تحتكر المنجزات وتجيرها باسمها وتستبعد كل التفاعلات الانسانية في إظهار هذه المنجزات على الشكل الذي هي عليه اليوم.

وحتى الجامعات المنصرفة للبحث العلمي او الانساني الصرف الذي تتباهى اوربا فيه اليوم يذكر ميرفي بنماذجه التي عرفتها الحواضر الأوربية، فلولا الجامعات الاسلامية التي عرفتها بغداد والبصرة والقاهرة ودمشق، ثم القيروان ومراكش، واشبيلية وغرناطة وطليطلة في إسبانيا لما وصلت جامعات أوكسفورد وباريس وفينا، وهارفي وهارفرد وسواها من الجامعات الاوربية المرموقة لما هي عليه اليوم من رقي وازدهار ساهم المسلمون في بناء لبناته الأولى، وهذا ما لا تريد أوربا أن تعترف به، لا لشيء سوى لبخس المسلمين حقهم وإرثهم الحضاري الذي كان يوما ما مشعلا إنسانيا يضيء الدروب لكل مجتمعات الانسانية، ويقدم للأمم ثمرات المعرفة في الرياضيات واللغويات والحكمة وعلم الإبحار في المحيطات، وفن الإعمار والبناء وعلم الكيمياء الذي لا ينكر أصوله العربية الاسلامية إلا جاهل في التاريخ كما يذكر ميرفي في كتابه المهم هذا.

وإذا كان المسلمون بما يمتلكون من تعاليم سنتها لهم شريعتهم السمحاء في التعامل مع الآخرين في حالة التمكن والقدرة، إذ كانوا مثالا في احترام مشاعر الناس، ولا سيما أصحاب الديانات السماوية ممن أسماهم القرآن الكريم (كتابيون) أي أصحاب كتب معترف بها، فإن أوربا حينما امتلكت فرصة القدرة والتمكن، فإنها انتقمت من أصحاب الديانات الأخرى شرّ انتقام، وسالت أنهار من الدم في إسبانيا ولم يسلم الأطفال ولا النساء من القتل والذبح دون محاكمة أو استتابة تذكر، بل إن أوربا المسيحية الكاثوليكية لم توفر جهدا في سفك دماء مخالفيها من المسيحيين غير الكاثوليك ، حيث جرت أنهار من الدم البروتستانتي، والشواهد التاريخية المهولة في دخول القسطنطينية في الحروب الصليبية الأولى لا يمكن نكرانها، حيث دمرت الكنائس الأرثوذكسية واغتصبت الراهبات في أماكن العبادة، وبقرت بطون النساء الحوامل، وطاف المقاتلون السكارى في كل أزقة القسطنطينية يقتلون كل إنسان يلقونه فرحين بأفعالهم الوحشية مسجلين أسوا الصفحات السوداء في تاريخ الوحشية البشرية.

ويتساءل ميرفي لماذا تعيش منطقة الشرق الاوسط اليوم عداءً عنيفا بين الديانات السماوية ولماذا يطالب المسلمون بإبادة اليهود وقد عاشوا متحابين لمدة 15 قرنا ولم تشهد المنطقة مثل هذا العداء الغريب، ويسأل عن سبب الهجمات التي تتعرض لها أوربا وأمريكا من قبل المتشددين الإسلاميين بين الحين والآخر؟؟ ولن يحير الرجل جوابا إذ يرى أن ذلك كله لا يمكن أن يفسر بعيدا عن ميول القوى الغربية واستراتيجيتها الدائمة والقديمة في سياسة الاستعلاء والاعتداء والخيانة المستمرة في علاقتها مع المسلمين عبر وعود كاذبة منذ دخولها للمنطقة مع بداية الاستعمار الاوربي في القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا، فضلا عن سياسة اوربا المستمرة في إعادة رسم حدود المنطقة وتقسيمها إلى كونتات وأقاليم طائفية ودينية وعرقية ليسهل السيطرة عليها ونهب الثروات الطبيعية الموجودة فيها والتي تشكل عصب الحياة الاقتصادية المنتعشة والمزدهرة في أوربا، والمتردية في بلاد المسلمين أصحاب الحق الأول في هذه الخيرات.

وقد أثبت ميرفي من خلال كتابه المذكور فهما عميقا لما يدور من حوله، وأثبت أنه على إحاطة معرفية لطبيعة العلاقات القائمة بين الأديان السماوية الثلاث، وهو في تحليله للأحداث لم يتجاهلأية حقيقة من الحقائق التاريخية رغم أن مجهوداته العلمية في إرجاع فضل الإسلام والمسلمين والتذكير بهذا الفضل التاريخي غير مرحب به ثقافيا في أوربا التي تعيش اليوم لحظة عداء غير مبرر في نظرتها للإسلام وللمسلمين وللشرق الأوسط برمته، وهي لحظة بحاجة إلى المراجعة والتغيير من قبل الأوربيين الذين أساؤوا فهم الإسلام وعجزوا عن إدراك العمق الروحي لحضارته العظيمة.