صورة الزهراء (عيها السلام) بين الواقع والخيال الشعبي الاسلامي

إسراء عزيز الربيعي

تنحدر السيدة فاطمة الزهراء من سلالة نبوية مطهرة، فهي ابنة الرسول الأكرم من زوجته الحبيبة خديجة، وقد ولدت في السنة الخامسة بعد البعثة النبوية، فكانت فلذة كبد الرسول وقرة عينه، ومن هنا مبعث إجلالها وتقديسها عند كل المسلمين، وحين اشتد ساعدها وبلغت مبلغ النساء تقدم لها خطاب كثر لكن العناية الالهية ما ارتضت لها بعلا سوى علي بن أبي طالب(ع) ابن عم النبي وساعده الأيمن وفاديه بنفسه حين تآمرت عليه رجالات قريش وقرروا تصفيته في فراشه، وتمثلت هذه العناية الربانية من خلال صدّ رسول الله للعديد من وجهاء قريش ممن تقدموا للحظوة بيد ابنته  وأحب الخلق إليه. وقد كان متاع بيت فاطمة (ع) متواضعا لا يعدو الحاجات الضرورية من نحو: إهاب كبش ووسادة وقربة ماء ورحى لطحن الشعير وجرّتين!!

وهي بعد زواجها من علي (ع) أنجبت له (الحسن والحسين وزينب) وكانت بذلك أما للأئمة الأطهار ومربيتهم الفاضلة على ما في حياتها من ضنك وفقر يصفه زوجها علي (ع) كما ينقل العلامة المجلسي فيقول (ع) عن زوجه : ( جرّت بالرحى حتى أثّرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وأقامت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دنّست ثيابها، وأصابها من ذلك ضرٌّ....).

إن هذه المنزلة التي نزلتها فاطمة الزهراء جعلت منها شخصية ذات بعد محوري في العالم الاسلامي قاطبة، فضلا عن منزلتها المعرفية فهي حافظة للقرآن الكريم ومفسرة للمشكل من آياته، وهي راوية - كما يروي الذهبي المؤرخ الكبير وصاحب كتاب سير أعلام النبلاء- لأحاديث أبيها لكونها تربت في حجره واستمعت له دون حاجة الى وسطاء آخرين، وهو ما أكسبها بعدا رمزيا في التاريخ الاسلامي عبر عصوره الطويلة، فهي الابنة المدللة والحبيبة لقلب أبيها والعالمة وهي الأم التي احتوت احشاؤها ورحمها الطاهر الأئمة وحفظت نسل النبوة دون غيرها من نساء العالمين.

ومع هذه المنزلة العظيمة والمقام الرفيع لكن مؤرخي العصور الأسلامية الأولى بخلوا علينا كثيرا في ذكر الأخبار الوافية عن فاطمة وقد تدخل مقص الرقابة الأموية والعباسية في توجيه الأخبار النادرة والقليلة التي وصلت عن سيرتها المفصّلة قبل وبعد موت أبيها ورحيله إلى الملأ الأعلى، ولا نعرف اليوم شيئا عن طفولة فاطمة وطبيعة علاقتها بأخواتها وأترابها من أيام الطفولة وحتى عن مرحلة بلوغها وانتقالها من بيت أبيها إلى بيت زوجها، وربما تشير الأخبار النزيرة الواردة عن فاطمة أكثر ما تشير إلى نوايا رواتها وعن أغراضهم المبيتة ضد أهل البيت، ففاطمة بحسب بعض هؤلاء كصاحب الطبقات الكبرى وابن الجوزي هي شخصية باكية شاكية متبرمة من زوجها ومن شدّة فقره ومن عزوفه عنها ورغبته في غيرها!!

وهذا ما لا يستقيم وطبيعة علي (ع) وشخصيته المحبة للعدل والانصاف والمجبولة على الإحسان والوفاء لرسول الله ولكلّ ما يمت إليه بصلة من قريب أو بعيد، فكيف إذا كانت هذه الصلة آتية عن طريق أحب الخلق طرّا إلى رسول الله وابنته الغالية وقرّة عينه التي طالما أوصى بها وببنوها خيرا..

إن مقص الرقابة وإن طال أقلام المؤرخين ومنعهم من ذكر أخبار الزهراء (عليها السلام) إلا أن ذلك لم يمنع من ازدهار صورتها في مشرق البلاد الاسلامية وفي مغربها على حدّ سواء، بل تجاوز الأمر البلاد الاسلامية واصلا إلى ما جاور التخوم الاسلامية، فللسيدة الزهراء حضور حتى في أسبانيا التي تحتفظ الكثير من بناتها من غير المسلمات بهذا الاسم، وتترصع الأرض الأسبانية بالكثير من المقامات والأبنية التي تتحدث عن بركة هذه السيدة العظيمة وعن عظم قيمتها في النفوس، ولا زالت هذه الأمكنة تزار ويتبرك بها حتى يومنا هذا..

وفي بلاد المغرب العربي كلما أمطرت السماء ليبارك الله الأرض بماء السماء، وكلما صفا الجو بعد المطر، وظهر في الأفق البعيد (قوس قزح) لينير الأفق ويدخل البهجة على الناظرين، نسمع العامة تقول عن هذا المشهد: (لقد لاح في الأفق حزام فاطمة الزهراء!! هنيئا لمن رآه وصلى على سيدنا وحبيبنا أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).

أما في المشرق العربي فلصورة فاطمة في المخيال الشعبي أكثر من تجلِّ، فهي على لسان النسوة في قرى صعيد مصر وشمالها، وهنَّ يطحنَّ الحبوب في الرحى على الطريقة القديمة وهذا يذكرنا برحى فاطمة التي كانت تدور ولا يد عليها كما يذكر الشيخ الصدوق.

وهي الحاضرة عند القرويات العراقيات عندما ينزلن الطعام من قدور الطبخ إلى المواعين لتقديم الزاد للضيوف والحاضرين لجعل البركة في هذا الزاد ولطلب زيادته ليكفي الحاضرين، وهذا يذكرنا أيضا بحديث صحيح يرويه ابن عباس عن ذلك فيقول: ( اجتمع النبي وعلي وجعفر عند فاطمة، وهي في صلاتها، فلما سلّمت أبصرت عن يمينها طبقاً من رطب وعن يسارها سبعة ارغفة وسبعة طيور مشويات، وجام من لبن، وطبق من عسل وكأس من شراب الجنة وكوز من ماء معين فسجدتْ وحمدتْ وصلتْ على ابيها وقدّمت الرطب، فلما فرغوا من أكله قدّمت المائدة) فأي منزلة عظيمة لهذه المرأة العظيمة التي أراد لها الله أن تكون ابنة وحبيبة حبيبه رسول الله، وهل تستطيع الأقلام المأجورة عبر التاريخ أن تمحو صورتها المتجذرة في المخيال الشعبي والمتجددة في النفوس؟؟