الاستــخلاف أمانة إلهيـّة

  تتركز قضية الاستخلاف في الأرض باعتبارها قضية قرآنية، ذكرها القرآن في بعض الآيات صراحة كما في قوله تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) البقرة :30 أو في قوله تعالى :( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (صـ : 26)  بأن يخلف الحُجَّةَ القائم بأمر الله في زمانه ،الحّجَّةُ الماضي قبل موته بعهدٍ يَعهدهُ إليه فيما استأمنَهُ اللهُ على خلقهِ، ذلك أنَّ اللهَ لا يُخلي أرضَهُ من حُجَّةٍ يُقيمهُ على الخلق يكونُ ظاهراً يشهدونهُ بجوارحهم، أو يكون خائفاَ مستوراً. هذا المعنى ذكرته الآيات و الروايات منها قوله تعالى:} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ {(يونس : 47) ثم ما جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: ( اللّهم إنك لا تخلي أرضك من حجّةٍ على خلقك )،وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: (لمّا انقضت نبوّة آدم وانقطع أُكله، أوحى الله إليه : يا آدم انه قد انقضت نبوتك، وانقطع أكلك ، فانظر إلى ما عندك من العلم، والإيمان، وميراث النبوة، وآثار العلم والاسم الأعظم فاجعله في العقب من ذريّتك عند هبة الله، فإني لن ادع الأرض بغير عالم يُعرف به ديني، ويعرف به طاعتي، ويكون نجاة لمن يولد ما بين قبض النبي إلى ظهور النبي الآخر).
ومن خلال استعراض بعض الآيات الشريفة واستقراء المسلمات التاريخية نجد ان الأنبياء والرسل عليهم السلام واجهتهم عقبات كثيرة ومتنوعة، وكلٌّ بحسب زمانه، كادت تحول دون تسليم الأمانة إلى الخَلف، وقد كان ذلك مسوّغاً لحالات الخوف التي اعترت كلاً منهم، وهو ما يظهر واضحاً من خلال الكثير من الآيات الشريفة التي نذكر منها قوله تعالى: } رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُص{(البقرة : 128، 129)أو قوله تعالى:} وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ*أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{ (البقرة : 132،133) .}أو قوله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً*وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً*يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً {(مريم : 5ـ 6) .
تطبيقات
لقد واجه آدم (عليه السلام) معضلة شديدة نتيجة لمناهضة ابنه (قابيل) مسألة الوصاية لأخيه (هابيل)، فكانت حادثة تقديمهما القربان إلى الله تعالى من أحدهما حلّاًَ لهذه المعضلة، ليكون تقبّل القربان من أحدهما أمارةً مشهودة على أحقيته في تولّي حمل الأمانة من بعد أبيه آدم، وعدم التقبل من الآخر أمارةً على عدم أحقيّته وأهليته .قال تعالى:} وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ{ (المائدة : 27).
لكنِ الله قضى أمراً تكون فيه الغلبة له ولرسله عليهم السلام قال تعالى : } كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ{ (المجادلة : 21) .فكانت إزالة هذا الحائل أن بعث الله شيثاً(هبة الله)عليه السلام وصيّاً حاملاً للأمانة الإلهية بدلاً من هابيل عليه السلام.
 ومع فرض بقاء خط (قابيل) ونموه واتساع مساحته حتى بعد انقضاء زمن شيث عليه السلام ومجئ زمان إدريس (عليه السلام) الذي لم يخل من جبابرة طغاة كما جاء في الأخبار، فكان ذلك سببا للتعبير بـ ( الرفع)الوارد في قوله تعالى: }وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّا{ً (مريم : 57).
 ويبدو اشتداد أُوار المناهضة للرسالات السماوية، بعد انقضاء حقبة إدريس (عليه السلام) لحدٍّ ينبغي أن تواجهه رسالة عامة وعزم إلهي شديد، فكان أن بعث الله نوحاً (عليه السلام) ذلك النبي المصطفى والرسول المجاهد الذي انبثقت دعوته إلى التوحيد والتقوى في وسطٍ واسعٍ من العصيان والتمرد من جانب قومه الذين وصفهم القرآن بأنهم أظلم وأطغى كما جاء في قوله تعالى: } وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى{ (النجم : 52) فقد شكلّت رسالة نوح عليه السلام مفصلاً تاريخيا لاعتبارات ذكرتها الآيات الشريفة ، كطول فترة الدعوة كما في قوله تعالى:} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ{ (العنكبوت : 14) وقوله تعالى:} قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً{ (نوح : 5).ثم الإصرار العظيم على رّد دعوته كما جاء في قوله تعالى:} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً {(نوح  6ـ 9).٩ ثم تأكيدهم على عبادة أصنامهم الحجرية التي نُصبت لهم وكانت ترمز إلى رؤسائهم من البشر دون المعبود الحق ،كما جاء في قوله تعالى } وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً {(نوح : 23)، إلى أن حدث الطوفان في الأرض ،وقد أفنى جميع المخلوقات الحية التي كانت خارج السفينة التي وضعها نوح علبه السلام بأمر من الله تعالى استجابة لدعائه الذي أوردته آيات كثيرة منها قوله تعالى :} وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً {(نوح : 26). 
ولقد وصلت الأمانة التي حملها نوح إلى إبراهيم (صلى الله عليه واله)  عبر وسائط ذكرها القرآن في بعض آياتهِ كقوله تعالى }أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {(التوبة : 70)، فكانت ولادة إبراهيم (صلى الله عليه واله)  أعظم تحدٍّ الهي لأعتى سلطة في ذلك الزمان قد أحكمت سيطرتها على البلاد والعباد ، مما دفعها إلى ممارسة التشكيك والتكذيب بغية الطعن في شخص الرسول لإسقاطه من أعين الناس ،فضلاً عن التشكيك بالرسالة ذاتها وحمل الناس على العكوف للأصنام الحجرية .} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ {(الشعراء : 71).
وقد نقل لنا القرآن مواجهة وقعت بين إبراهيم  وبين رأس السلطة الحاكمة. قال تعالى: } أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {(البقرة : 258). ولهذا حاول تحريقِهِ بالنار بدعوى نصرة الآلهة ثم تهجيرهِ من العراق إلى الشام، كلُّ ذلك للحيلولة دون إيصال الأمانة. وهذه صورة من صور الصراع الذي يقع بين الأنبياء (عليهم السلام) وبين الطواغيت الذين يمسكون بِأَزِمّةِ الأمور.
مستلة من بحث (الأمانة الإلهية)
للسيد كاظم الحسيني الذبحاوي