النبي الأمّي وآراء المفسرين

حيدر كاصد العبودي

من المواضيع التي شغلت بال الكثير من المفسرين والباحثين موضوع أميّة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم، وقد دار الحديث حول هذه اللفظة وما تعنيه، وسنتطرق في هذه العجالة لبعض آراء المفسرين في هذا الموضوع.

الأُمِّيّ لغةً:

الأُمِّيّ الذي لا يَكْتُبُ, قال الزجّاج: الأُمِّيُّ الذي على خِلْقَة الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّم الكِتاب فهو على جِبِلَّتِه, قال أَبو إسحق: معنى الأُمِّيّ المَنْسُوب إلى ما عليه جَبَلَتْه أُمُّه أي لا يَكتُبُ, فهو في أَنه لا يَكتُب أُمِّيٌّ, لأن الكِتابة هي مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إلى ما يُولد عليه أي على ما وَلَدَته أُمُّهُ عليه. راجع: لسان العرب.

قال تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (2) الجمعة.

وقال تعالى ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )(158) الأعراف.

وقال تعالى(وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) (48) العنكبوت.

يقول ابن عاشور

هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة، وقد ورد الاستدلال بها في مواضع كقوله: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ {الشورى:52} وقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {يونس:16}. ومعنى: مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ.. إنك لم تكن تقرأ كتابا حتى يقول أحد هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل. (ولا تخطه) أي لا تكتب كتابا، ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما: التعلم بالقراءة، والتعلم بالكتابة، استقصاء في تحقيق وصف الأمية بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ. أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله، بل هو آيات في صدر النبي صلى الله عليه وسلم. فالمراد من (صدور الذين أوتوا العلم) صدر النبي صلى الله عليه وسلم، عَبَّر عنه بالجمع تعظيما له، والعلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم هو النبوة. التحرير والتنوير(10/12).

وللفخر الرازي عند قوله تعالى: (رسولاً منهم) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم نسبه من نسبهم، وهو من جنسهم، كما قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) [التوبة:128] قال أهل المعاني: وكان هو صلى الله عليه وسلم أيضاً أمياً مثل الأمة التي بعث فيهم، وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، فكانت حاله مشاكلة لحال الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقه. التفسير الكبير(10538

وقد ‏ذكر الألوسي في تفسيره {‏هُوَ الذي بَعَثَ فِى الاميين‏}‏ يعني سبحانه العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرأون‏.‏

وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وأريد بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى، فالأمي نسبة إلى الأم التي ولدته، وقيل‏:‏ نسبة إلى أمة العرب، وقيل‏:‏ إلى أم القرى، والأولى أشهر، واقتصر بعضهم في تفسيره على أنه الذي لا يكتب، والكتابة على ما قيل‏:‏ بدئت بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار، وقرىء الأمين بحذف ياء النسب

اما في تفاسير الشيعة الأمامية فقد جاء في تفسير الامثل

حيث يقول: (هو الذي بعث في الاُمّيين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته).

وذلك من أجل أن يطهّرهم من كلّ أشكال الشرك والكفر والانحراف والفساد (ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

ومن الملفت للنظر أنّ بعثة الرّسول (صلى الله عليه واله) بهذه الخصوصيات التي لا يمكن تفسيرها إلاّ عن طريق الإعجاز، تعتبر هي الاُخرى إشارة إلى عظمته عزّ وجلّ ودليل على وجوده إذ يقول: (هو الذي بعث في الاُمّيين رسولاً...) وأبدع هذا الموجود العظيم بين اُولئك الاُمّيين... "الاُمّيين" جمع (اُمّي) وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة (ونسبته إلى الاُمّ باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليماً في معهد أو مدرسة غير مدرسة الاُمّ).

وقال البعض: إنّ المقصود بها أهل مكّة، لأنّ مكّة كانت تسمّى (باُمّ القرى)، ولكنّه بعيد.

قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود بها "اُمّة العرب" مقابل اليهود وغيرهم، واعتبروا الآية (75) من سورة آل عمران شاهدة على هذا المعنى حيث يقول: (قالوا ليس علينا في الاُمّيين سبيل) وذلك باعتبار أنّ اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم أهل الكتاب وهم أهل القراءة والكتابة، بينما كان العرب على العكس من ذلك.

ولكن التّفسير الأوّل أنسب.

جاء أيضا في تفسير من هدى القرآن للسيد محمد تقي المدرسي [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ] قال كثير من المفسرين إن: [الأُمِّيِّينَ] هم الذين ينتسبون إلى مكة أم القرى، ويحتمل أنهم المتفرقون أمماً وقيماً، والأظهر أنهم الجاهليون، إلا أنه ينبغي القول بأن الأمي والجاهلي ليس الذي لا يقرأ ولا يكتب فإن ذلك هو المعنى الحرفي الظاهر للكلمة، فقد ينسب العالم الذي يقرأ ويكتب إلى الجاهلية والأمية لأنه لا يتفاعل مع معارفه، وعدم القراءة والكتابة مظهر واحد من مظاهر التخلف والجهل، وللجاهلية مظاهر شتى تصدق عليها جميعاً كلمة الأمي التي يبدو أنها غلبت لتشمل كل أبعاد الجاهلية، ونستوحي ذلك من استخدام القرآن الحكيم لها في سياق حديثه عن أهل الكتاب وهم يقرؤون ويكتبون وفيهم دعاة العلم إذ قال: [وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ] "البقرة: 78"، ولكن لماذا بعث الله رسوله في الأميين بالذات؟.

1- إذا أخذنا بالتفسير الأول (أنهم أهل مكة) فذلك تجلٍّ لحكمة الله حيث يبعث رسله في مركز البلاد وأكبر مدنها وأهمها وحيث بؤرة الفساد والضلال، فإن ذلك أكبر أثرا في التغيير.

2- وعلى التفسير الأظهر (أنهم الجاهليون) نهتدي إلى أن الله يستنقذ البشرية حينما تتجه حضارتها نحو الدمار والانتهاء.

ثم إن الله حين بعث رسوله في الوسط المتدني في العلم عرّفنا بأن الرسالة لم تكن تكاملاً ذاتيًّا وصلت إليه البشرية والمدنية، كلا.. إنها كالغيث الذي ينزل من السماء على أرض جرداء فيملؤها خصبا وجمالا. إنها كما أشعة الشمس تهبط على وديان الظلام فتنشر عليها الضياء والروعة.

إنها تأتي من خارج إطار السياق التاريخي فتحدث فيه ثورة بديعة وتحولا عظيما لا نجد له أي تفسير إلا في الرسالة، وليس كما يدعي البعض أنها مجرَّد عامل مساعد لعوامل حضارية لدى العرب، فإن الدلائل التاريخية كلها تشير إلى وجود جاهلية (أميّة) شاملة في كل الأبعاد في المحيط الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه واله عبّرت عنها فاطمة بنت محمد عليها السلام بقولها عن أبيها: "ابْتَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِتْمَاماً لِأَمْرِهِ، وَعَزِيمَةً عَلَى إِمْضَاءِ حُكْمِهِ، وَإِنْفَاذاً لِمَقَادِيرِ حَتْمِهِ، فَرَأَى الأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه واله ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَهَا، وَجَلَا عَنِ الأَبْصَارِ غُمَمَهَا، وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالهِدَايَةِ، وَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الغَوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمَايَةِ، وَهَدَاهُمْ إِلَى الدِّينِ القَوِيمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ.." ، وقالت عليها السلام: "... [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ] مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ العَجْلَانِ، وَمَوْطِئَ الأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ الوَرَقَ، أَذِلَّةً خَاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ..." .

وهناك سؤال: لماذا سُمِّي النبي أُميًّا، وقال الله تعالى: [رَسُولٌ مِنْهُمْ]، فما هي النعمة في أن يكون النبي أميًّا؟.

قال الماوردي: "الجواب من ثلاثة أوجه:

الأول: لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء.

الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم فيكون أقرب إلى موافقتهم.

الثالث: لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها" .

بيد أن الجواب: الأفضل هو ما ذكر في حديث شريف مأثور عن الإمام الباقر عليه السلام كما سيأتي.

وهناك شبهة حاول البعض أن يدسها عند قول الله عن الرسول صلى الله عليه واله: [مِنْهُمْ] إذ نسبوا إلى النبي الأكرم الأمية والجهل، وأئمة الهدى من جهتهم سعوا لدفعها بصورة منطقية، فقد قيل للإمام الباقر عليه السلام: "إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه واله لَمْ يَكْتُبْ وَلَا يَقْرَأُ!.

فَقَالَ عليه السلام: كَذَبُوا لَعَنَهُمُ اللهُ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ وَ قَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلّ: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ]، فَيَكُونُ يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَقْرَأَ أَوْ يَكْتُبَ؟.

قَالَ -الراوي- قُلْتُ: فَلِمَ سُمِّيَ النَّبِيُّ الأُمِّيَّ؟. قَال

َ عليه السلام: نُسِبَ إِلَى مَكَّةَ، وَذَلِكَ قَوْلُ الله عَزَّ وَجَلَّ: [لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]، فَأُمُّ القُرَى مَكَّةُ فَقِيلَ أُمِّيٌّ لِذَلِكَ" ، وقد جاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق عليه السلام: إن تسمية العرب بالأميين كان بسبب حرمانهم من كتاب إلهي، وعلى هذا فإن نسبة الرسول إلى ذلك كان بسبب انتمائه إلى اولئك القوم جغرافيًّا ونسبيًّا، وليس لأنه شخصيًّا لم ينزل عليه الكتاب، فقد نزل عليه أحسن الكتب فكيف يكون أميًّا بهذا المفهوم؟.

سأل أحد الناس الإمام الرضا (عليه السلام)، فقال له: يا بن رسول الله لم سُمي النبي الأمي؟.. فقال (عليه السلام): ما يقول الناس؟.. فقال الرجل: يقولون أنه سُمي الأمي، لأنه لم يحسن أن يكتب. فقال (عليه السلام): كذبوا عليهم لعنة الله، كيف والله يقول في محكم كتابه: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)؟!.. فكيف كان يعلمهم، ما لا يحسن؟!.. والله، لقد كان رسول الله يقرأ، ويكتب بثلاث وسبعين لسانا.. وإنما سُمي (الأمي)، لأنه كان من أهل مكة، ومكة من أمهات القرى، وذلك قول الله عز وجل: (ولينذر أم القرى ومن حولها). بحار الأنوار ج ١٦

هذا ما ورد من الفريقين، وما نراه هو ما ذهب إليه السيد المدرسي حيث إن الآية الكريمة (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) قد نفت كتابة كتاب ولم تنفِ الكتابة مطلقا، وللقارئ الكريم رأي ايضاً.